لبنان.. بين بايدن وترامب
تشرين- د. رحيم هادي الشمخي:
ليس سراً ما نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية حول أن اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان والكيان الإسرائيلي، الذي أعلن عنه الثلاثاء الماضي، كان بتدبير مشترك بين بايدن وترامب.
ورغم أن ترامب وجميع المرشحين الذين اختارهم لإدارته التزموا اللا تعليق حيال الاتفاق، إلا أن تأثير ترامب كان واضحاً، علماً أن هذا التأثير لم يكشفه ترامب بقدر ما كشفه بايدن، ومبعوثه آموس هوكشتاين الذي حظيت مهمته (في الأيام القليلة التي سبقت الاتفاق) بتفويض من ترامب نفسه، ليبدو مبعوثاً له أكثر مما هو مبعوث لبايدن.
التنافر بين بايدن وترامب الذي وصل أقصاه، لم يكن ليُفسد بالمطلق الأهداف الأميركية لإخراج الكيان الإسرائيلي من هزيمته الكبرى في لبنان، والعمل على إظهارها نصراً، وهذا ما سعى إليه الجانب الأميركي بكل الوسائل، الظاهرة والمخفية، وهذه الثانية -أي المخفية- أكبر بكثير مما يمكن أن نتخيله أو نتوقعه.
ويبدو أن ما تحت الطاولة كبير وخطير، وهذا ما نشهده عملياً منذ اليوم التالي للاتفاق، عبر البيانات والتهديدات الإسرائيلية التي تصدر وتمنع شريحة تقدر بعشرات الآلاف، من أهل الجنوب اللبناني من العودة إلى مناطقهم… وحتى عبر التهديدات التي يطلقها متزعمو الكيان وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو الذي يهدد لبنان بتجديد الحرب إذا ما تم انتهاك الاتفاق، علماً أن الكيان هو من انتهك الاتفاق بعد ساعات فقط من إعلانه، حسب بيان للجيش اللبناني يوم الجمعة الماضي.
ترى وول ستريت جورنال أن إدارة بايدن تبنت استراتيجية مفاجئة تقوم على التنسيق مع ترامب، وتقول: إن إدارة بايدن جلبت معها شريكاً مفاجئاً في المقعد الخلفي: «ترامب»، وتضيف: الآن سيتم الانتقال إلى قطاع غزة لفعل الأمر ذاته، وإن كانت المهمة أصعب بكثير.
ما تقوله الصحيفة الأميركية قلناه قبلها بأسابيع، وفي وقت كانت جميع التوقعات والتحليلات تؤكد أن إدارة بايدن ستعرقل ما أمكنها مفاوضات وقف إطلاق النار في لبنان (وفي غزة) بزعم أنها لن تهدي ترامب نصراً دبلوماسياً (مجانياً) تكون نتيجته تثقيل موازين إدارته المقبلة، وإظهاره بمظهر من يستطيع فعلاً النجاح في دفع اتفاقات (السلام) وإنهاء الحروب كما يقول.
ما أسقطه المحللون والمراقبون، أو ما تجاهلوه عمداً أو جهلاً، هو أن المسألة لا تتعلق ببايدن أو ترامب، أو من يقدم الهدايا للآخر، وأن المسألة ليست في أن التنافر والعداء الحاد بينهما سيدفعهما لترجمة ذلك على أرض الميدان، ونقصد هنا ميدان المصالح الأميركية، وبما يشكل تهديداً وجودياً لها..
المسألة هنا تتعلق بالكيان الإسرائيلي الذي لا يمكن أن تختلف عليه أي إدارة أميركية مع أخرى، سواء كانت ديمقراطية أو جمهورية، لذلك كان طبيعياً، وليس سرياً، أو أمراً مفاجئاً أن يتعاون بايدن وترامب وينسقان باتجاه اتفاق يخدم مصالح الكيان، ويعطيه ما خسره في الميدان، فجميعنا يعلم ومسبقاً أن أي اتفاق حتى لو كان على أعلى مستوى من المثالية، أو لنقل أنه يحقق شروط سلام متساوية، فإن الكيان لن يَعْدَم الوسيلة لإيجاد الذرائع في سبيل حرفه عن مساره، وتالياً في سبيل انتهاكه، وهذا ما حدث، وما سيستمر في الحدوث.
وفي الوقت ذاته يتم حشر الطرف المقابل (لبنان) في أضيق زاوية ممكنة، فإن تحرك قليلاً، ولو على مستوى أهلي/إنساني، سيتم اعتبار ذلك انتهاكاً يستدعي تجديد حرب وحشية على لبنان كما هدد نتنياهو أمس الجمعة.
هذا في حال كان الاتفاق مثالياً، فكيف إذا كان اتفاقاً تنخره «فجوات وثغرات تجعله هشاً وقد لا يصمد» باعتراف المفوض الأوروبي جوزيب بوريل، والعديد من المسؤولين الدوليين.. وهو الاعتراف نفسه الذي استفاض الإعلام الغربي في عرضه وشرحه.
الآن وبعد أقل من أسبوع على إعلان الاتفاق، تأمل إدارة بايدن (ومعها ترامب) أن تحقق الاتفاق نفسه في قطاع غزة (ولكن بشروط أوسع وأخطر طبعاً وبما يضمن للكيان سيطرة كاملة عليه). وإذ يعترف الأميركيون أن المهمة أصعب بكثير، إلا أنهم في الوقت ذاته يعتقدون أن بإمكانهم اتباع المسار ذاته، مضافاً إليه استخدام الاتفاق على جبهة لبنان، للضغط ومحاصرة القطاع، إلى جانب استمرار الكيان في أقصى مستوى قصف وتدمير وقتل. إنها الحرب المعنوية/الإنسانية نفسها، فلا يمكن أن يكون أهل غزة بقوة احتمال لا نهائية… ومن هنا يُقال بأن الاتفاق على جبهة غزة سيتم حتماً قبل تنصيب ترامب في 20 كانون الثاني المقبل، وربما يكون خلال أسبوعين من الآن.
والاتفاق هنا ليس لوضع نقطة نهائية لمأساة أهل غزة، بقدر ما هي وضع نقطة نهائية في ملف الرهائن الإسرائيليين، “حيث سيكون ضرباً من الجنون الطلب من ذوي الرهائن الانتظار حتى تنصيب ترامب”..
هذا ما أخبر به بايدن نتنياهو في مكالمة هاتفية جرت بينهما الثلاثاء الماضي، وفق صحيفة وول ستريت جورنال التي نقلت عن أحد مساعدي بايدن بأنه سيواصل الضغط – حتى آخر يوم في ولايته – باتجاه اتفاق في قطاع غزة حتى لو نسب النجاح في التوصل إلى اتفاق، في النهاية، إلى ترامب.
مع ذلك ورغم كل ما سبق، فإننا نختم بسؤال طرحته «وول ستريت جورنال» حول ما إذا كان الاتفاق بين لبنان والكيان الإسرائيلي سيصمد، وتنقل عن مسؤولين لبنانيين قولهم إن «حق الكيان في الرد» على أي انتهاكات «ليس جزءاً من الاتفاق الرسمي».
وحسب الاتفاق الرسمي فإن الكيان ملزم بالتنسيق والإبلاغ، وانتظار الجيش اللبناني، أو اليونيفيل، أو التعاون مع الجانب الأميركي، في حال أي انتهاك من الجانب اللبناني.
ولكن كما قلنا دائماً فإن للكيان (مدعوماً من أميركا) أن يفسر الاتفاق كما يريد، وتالياً أن يفسر أي تحرك كما يريد على أنه انتهاك، ثم يرد وتقوم أميركا بالتغطية عليه، وهذا ما يفسر استمرار التهديدات الإسرائيلية بتجديد الحرب على لبنان، وبمواصلتها في غزة، بل إن الكيان يرى في الاتفاق على جبهة لبنان مرحلة استراحة وترميم القدرات والمعنويات بانتظار تجديد الحرب مع قدوم ترامب لتحقيق كامل الأهداف التي يقول إنها لم تتحقق بعد، لا في لبنان ولا في قطاع غزة.
وعليه فإن الاتفاق سواء صمد أم لا، وسواء كان بايدن أم ترامب في المكتب البيضاوي، فإن الكيان لن يوقف حربه لا ضد لبنان ولا ضد غزة، بل سيوسعها باتجاه جغرافيا أخرى في الجوار، وفي الإقليم.. والأيام المقبلة ستكون كفيلة بحسم هذه المسألة.
كاتب وأكاديمي عراقي