مع ابن خلدون مؤرخاً
تشرين- ادريس هاني:
قادتني الصدفة لحضور حفل تقديم وتوقيع كتاب «تاريخ العرب والبربر بالمغرب» لعبد الرحمن ابن خلدون بحضور المحقق والمعلق الأستاذ عبد السلام الشدادي، ومقدمه الأستاذ عبد الحميد عقار الرئيس السابق لاتحاد الكتاب بالمغرب، وذلك بمكتبة الألفية، وكان العرض مفيداً من ناحيتين:
الأولى أنّه يعيد الثقافة والفكر إلى الواجهة بعض سطو السياسوية أو حتى الثقافة التي نبتت في جدار السياسوية.
الثانية أنه عودة إلى ابن خلدون وإلى مهنة المؤرّخ.
وكلا الحيثيتان كانتا كفيلتين بجذب الانتباه، ذلك لأنّ التأريخ والوثيقة وتأويلها مازالت شاغلاً قويّاً في الهمّ الاستريوغرافي، مع تراجع ملكة التحقيق والتحقق من الخبر. فالتّاريخ يدفع ضريبة مضاعفة نتيجة عودة فوضى السرد وسطوة التخييل على التوثيق.
المسألتان اللّتان أثارتاني عند البروفسور الشّدادي هي:
– أنّ ابن خلدون دشّن الطريقة العلمية في التاريخ، ولعله أول من جعل التاريخ علماً.
– أنّه بالتّالي وفّى بما وعد به في المقدّمة.
لقد عمل الشدادي على التحقيق والترجمة وساهم في رفد الغرب بهذا الميراث العلمي، وهو بهذا عكس دور الاستشراق. اشتغل الشدادي على الخلدونيات تحقيقاً وتأليفاً وترجمة منذ عقود، وبتفانٍ. ولكن كان لدي تعليق ومداخلة لم أجد عنها حِولاً في ذلك، سأستعيد بعضها هنا:
بالفعل، ابن خلدون لم يفِ بما وعد به، وثمة فراغات إن لم نقل عودة إلى السّرد التقليدي للإحداث في كتاب العبر. ليس ابن خلدون في هذا بدعاً، فهناك من تكون وعوده أكبر مما آل إليه نظره وبحثه، يحصل هذا حتى في العلوم الدقيقة. لكن ثمّة ما يبرر ذلك، وهو الشروط التاريخية والاجتماعية لمؤرّخ كانت له ميول سياسية، وهو جزء من مؤسساتها، ليس من حيث تولّيه القضاء، بل من حيث مهنته كمؤرّخ، وهي مهنة غير مستقلّة وخطيرة، بل لعلها الأخطر.
وستضعنا التعريفات على هذه الحقيقة في اللقاء مع تيمورلانك، الحدث الخطير الذي كان لا بدّ أن يخضع فيه لرأي تيمورلانك حيث كان في قبضته بدمشق وهو في طريقه إلى الحج. لقد نقل ابن خلدون للقائد المغولي معلومات عن طنجة- الاسم التاريخي للمغرب- خطيرة، كان بإمكانها أن تيسر الطريق لاكتساح المغول لشمال إفريقيا. كان ابن خلدون وفق هذا التوصيف «لايف لاكوست» خاذلاً سياسياً، مع أنّ هذا كان متوقّعاً لرجل خبر السياسة في قبضة أخطر غازٍ عرفته البشرية. لقد تمدح ابن خلدون بالأمة المغولية واعتبرها خير أمة منذ آدم. لكن تيمولانك كان على قدر من الثقافة، حتى أنه خاض في نقاش مع ابن خلدون حول مصادره. وحيث لاذ ابن خلدون بالطبري والمسعودي، إلاّ أن تيمولانك لم يتركه، بل أظهر له أنّ هذا لا يوجد في تلك المصادر، ما دعا ابن خلدون إلى القول، إنما اعتمدت التنجيم.
إذا قرأنا الموقف الذي نقله ابن خلدون نفسه عن نفسه، خارج سياق الرّعب المغولي، سنتحدّث إذن عن هزيمة علمية، لكن إن وضعناه في سياقه السياسي، فلقد كان ابن خلدون المؤرخ في ورطة تاريخية، تُرى هل يجوز للمؤرّخ أن يمارس التّقية؟
إنّ مهنة المؤرخ ليست حرّة، ولكن مع ابن خلدون، يكفينا ما تيسّر من تعليل الأحداث، وهو بالفعل منح التاريخ منطقاً قاصداً، فابن خلدون كان يملك فكراً تاريخياً. يبقى أنّ ابن خلدون لم يأتِ من فراغ، بل هو نفسه يتحدث عن مصادره، ومن مصادره ما أعلن عنه ومنها ما لم يعلن عنه كاعتماده آراء إخوان الصّفا. لقد استفاد ابن خلدون من كل ذلك، ولكنه تأمّل تلك الأحداث، وتجاهل بعضها، واستند في أُخراها على الثقافة العامّة.
لقد كانت السياسة حاضرة بقوة في اختياراته، وهو وحده ما يفسر جملة الهنات التي انتابت كتاب العبر، حيث يحضر ساعة التعليل ويغيب بحسب التيار العام، وبعض فصول التاريخ غابت لأن ابن خلدون كان يتجاهل التفاصيل أحياناً، لإدراكه أن فيها يكمن الشيطان، فيسلك مسلك التيار العام. ففي نظري كما فعلت منذ عقود من تأمّلي في تلك الفراغات، أن نجعل من كتاب العبر في حدّ ذاته منطلقاً لقراءة ما بين السطور، أي لنؤوّل المعلن وغير المعلن، المفكر فيه وغير المفكر فيه في تاريخ ابن خلدون. لماذا سكت هنا، ولماذا برر هناك، لنعرف من خلال ذلك حساسية عصره.
ويبقى كتاب العبر، والمقدمة تحديداً، عملاً استثنائياً في تاريخ التأريخ، لأنّ الخطاب التّاريخي في لحظة ابن خلدون كان يتمخّض لولادة علم العمران، وهو ما جعل التاريخ والاجتماع صنوان، لأنهّ لا تاريخ إلاّ بالتاريخ الاجتماعي، ولا تاريخ اجتماعياً من دون منهاج لتعليل الحوادث التاريخية القاصدة..