خِتامٌ مِسكٌ لـ “أيام الثقافة السورية 2024″… الموسيقيون السوريون ضوءٌ في عتمة هذا الواقع!

تشرين _جواد ديوب: 

يقال “إنَّ مَنْ يسمِعِ الموسيقى على حقيقتها لا يموت”! ومعنى الجملة كما أفهمها هو أن روحَ المُصغي إلى جوهرِ الموسيقى تبقى ترقصُ مع كل حركةٍ من حركات الطبيعة، وكل دورانٍ للكواكب في الأكوان اللانهائية، وكل تفتّحٍ لزهرة، وكل رعشةٍ لآلةٍ موسيقية.

كانت هذه الجملة ترفرفُ فوق رأسي وأنا أستمع وأستمتعُ بما قدمته الفرقة السيمفونية الوطنية بقيادة المايسترو “ميساك باغبودريان” كحفلٍ ختاميٍّ لأيام الثقافة السورية، في دار الأوبرا بدمشق.

لأوّل مرة…”كونشيرتو آلة الهارب”!
دخولٌ هادئٌ وحالم من الكمانات سحبنا نحو موجةٍ أعلى من أوتار القيثارة (الهارب) بين يدي العازفة رهف شيخاني المتألقة في “الكونشيرتو” الذي ألفه الموسيقي كنان ادناوي خصيصاً لآلة الهارب ويقدّم للمرة الأولى (وهو الأول من نوعه عربياً على الأرجح ومكون من أربع حركات: بطيئة، حيوية، بطيئة، والأخيرة حيوية بمرح) ، ثم تدخل الطبولُ كأنها تنذرُ بتصاعدِ التوتر بين آلة الهارب ومجموع الآلات، أو كأن الحوار الدائر بينهم… تارةً يميلُ نحو ما تريده القيثارةُ بروحها اللطيفة المرتبطة بالطقوس الدينية الشرقية (مغنية المعبد أورنينا)، وتارةً يجنحُ الحوار نحو ما تقوله الآلاتُ التي “تتنمّرُ” حيناً وتترفق حيناً آخر بالشكوى التي تبثّها لهم أوتارُ القيثارة، لكن اللطافة والرِّقة التي تبوح بها آلة الهارب تبدو كأنها أجواءٌ حالمةٌ لامرأةٍ عاشقة، ثم فجأة يحدثُ تحولٌ لافتٌ يتغير إيقاعُ الطبول وحتى إيقاعُ الكمانات وآلات الكونترباص كأنها جميعاً ترحّب من جديد بأزهارِ ربيعٍ تفتحت مع نغماتٍ راقصةٍ من القيثارة ممزوجةٍ باهتزازاتِ دفوفٍ مع “خشاخِشَ” وصنوجٍ، في جوٍّ احتفاليٍّ مَرِحٍ تنتهي به الحركة الرابعة والأخيرة من الكونشيرتو الذي بدا في بعض جوانبه أن الجُمل الموسيقية التي تقولها مجموع الآلات أجملَ وأقوى في الصياغة اللحنية من تلك المخصصة أصلاً لإبراز آلة الهارب النادرة والتي قلّما نشاهدها ونسمعها في حفلات الدار الموسيقية.

وفاءً للراحل صلحي الوادي!

ثم في المقطوعة التالية أوضحَ لنا المايسترو “باغبودريان” كيف “أن هناك أشخاصاً يمرّون في حياتنا فيغيّرون مسارها نحو الأفضل… وهذا ما فعله الموسيقي الراحل صلحي الوادي مؤسس المعهد العالي للموسيقا بدمشق معه شخصياً ومع الكثير من الطلاب الذين أصبحوا موسيقيين محترفين… لذلك من غير المعقول أن تمر احتفالية “أيام الثقافة السورية” التي ترفع شعارَ العام “الثقافة رسالة حياة” من دون وجوده معنا عِبر مقطوعة اسمها “موشّحٍ/قطعة ليليّة” استقاها الراحل من موشح “مُنيتي عزّ اصطباري”، موجودٌ منها نسخة على البيانو، لذلك قمنا بدمجهما معاً بمعالجة أوركسترالية مشغولة بعناية”.
وكانت المقطوعة المستوحاة من الموشح غريبةً باعتقادي إلى حدٍّ ما على الأذنِ المعتادة على سماع الموشحات التقليدية، خاصةً أن ذلك التوزيع الأوركستررالي استخدم النفخيّات الضخمة وتلك الناعمة مثل الفلوت والكلارينيت إلى جوار الطبول الضخمة كما لو أننا في جوٍّ هائج أو كما لو أننا نستمع إلى موسيقا تصويرية لفيلمٍ وهناك شيءٌ ما غيرُ مريح على وشك الحدوث!

“الربان والعاصفة”!

وكنّا على شوقٍ لنستمع، ولأول مرة أيضاً في دمشق، إلى القصيد السيمفوني الذي ألفه الموسيقار صفوان بهلوان، ووزعّه وجهّز أدوارَ الآلات كلها الموسيقيُّ الراحلُ “نوري الرحيباني” وقد كان الراحلُ قد قدّمه -وبقيادته شخصياً- مع أوركسترا إذاعة برلين عام 1987 لكنها لم تقدّم في سورية حتى اليوم!
وقد حكى لنا المايسترو ميساك عن “أن الراحل الرحيباني ترك النوتات أمانةً عنده منذ عام 2022 لكن وفاته وظروفاً أخرى حالت دون تقديم السيمفونية يومها.. وها نحن اليوم ننفذ وصية الراحل ونحقق الحلم بوجود مؤلف القصيد السيمفوني الأساس الأستاذ صفوان بهلوان”.

الأزرقُ الغامض!

لحظةُ البدايةِ المُفاجئة كانت مع اللوحة المذهلة المرسومة بريشة الموسيقي صفوان بهلوان نفسُه، معروضةً على الشاشة الكبيرة في عمق الخشبة، وتُظهِرُ سفينةً عملاقة تصارعُ أمواجَ بحرٍ هائجٍ، وفوق السفينة سماءٌ بغيومٍ رماديةٍ تنذرُ بعاصفةٍ مُهلِكة.
وبالتزامن مع الأزرق الغامضِ، مع كمنجاتٍ متوترةٍ وأصواتِ أبواقٍ ودقِّ طبولٍ كأنها بروقٌ ورعودٌ ووعيدٌ يقوله “الباصون” مع نغمةٍ مُحذّرةٍ مُشابهةٍ من التشيللو…كان هيجاناً وتسارعاً واشتداداً في صوت مجموع تلك الآلات كأنّ البحرَ جُنَّ جُنونُه فضربَ بأمواجه السفينة المبحرة نحو المجهول، لكن قبطانَها المتمكنُ، ربّانَها العتيقُ يواجه غضبَ آلهة البحار بخبرةِ مَن خاضَ التيارات المالحة العاتية طوال عُمره.
ومع جُنوحِ النوتاتِ الموسيقية إلى الهدوء والفرح كما لو أن لحظاتٍ مشمسةً عبرتْ بين الغيوم فسكنَت عفاريتُ الموج (عبّرت عن هذه اللحظات نفخياتُ الفلوتُ ونقراتُ آلة الماريمبا وطبولٌ فرحةٌ) إلا أن بقاءَ لوحة الشاشة الملبدة بالغيوم والمثبتةِ على منظر السفينة المضروبة بموجةٍ عاتيةٍ جبارة تكادُ تقلبها… شكّل تضاداً في الشعور لدينا بين لحظات السكينة النغمية وبين المشهد رغم محاولات تحريكه تقنياً ونثر قطراتِ مطرٍ ديجيتاليٍّ انهمر في قلب الشاشة!

روايةُ “الشيخ والبحر”!

متتالياتُ السيمفونية، تصاعداتُها وانخفاضاتها، رهبة البحر وصوت العاصفة، رائحةُ البحر وملوحته التي كادت تسيلُ على أجسادنا، صراعُ قبطان السفينة في مواجهة قدره، شجاعتُه في الحفاظ على ثبات ونجاة السفينة بكرامةٍ وبسالة…كلها ذكرتني شخصياً ببطلِ رواية “الشيخ والبحر” للكاتب “إرنست همنغواي”/ البحارِ العجوزِ “سانتياغو” وهو يخوض معركة ملحميّة لاصطياد سمكة “مارتِن” ضخمة، في صراع طويل مرهق وإحساسٍ بفقدان الأمل والشعور بالعجز للحظات أمام قوى الطبيعة/الموت/الشيخوخة… لكنه يظفر بها في النهاية ويصل بها إلى الشاطئ رغم خسارته لمعظم شحمها نتيجة هجمات القروش المهتاجة.

صلاةٌ فينيقية!

وهكذا بدا الموسيقار صفوان بهلوان ابنُ جزيرة “أرواد” خبيرُ البحر وصديقُه كأنه هو ربّانُ تلك السفينة في اللوحة أمامنا، كأنه هو الصيادُ العجوزُ، بل كأنه نحنُ -في إحدى رمزياتِ القصيد السيمفوني الممكنة- بل هو أسلافُه الفينيقيين “سادةُ البحر المتوسط” كنا يلقبون والذين كانوا -في مواجهة غموضِ البحر وعلاقتهم الأزلية معه- يتلونَ صلاةَ البحّارةِ لأمِّ قرطاج “أليسار” من أجل أن يشدّوا الهمة جميعاً: “هيلا هيلا هيلاليصا” أي بما معناه: أعينينا يا أليسار يا ملكة قرطاج!
تلك النداءاتُ العالية الجهورية المركبة هارمونياً أداها شبابُ وصبايا “كورال المعهد العالي للموسيقا” بمصاحبة جميع الآلات، بين طبقاتِ صوتٍ خفيضةٍ جداً جداً كأنها الأعماقُ الغامضة للبحر، وأصواتٍ أعلى مرحة ومبتهجةٍ ومليئةٍ بالأمل… أقول إن تلك النداءاتُ -وهي الأقدمُ بمئات السنين- ذكّرتني بـ “نشيد الفرح” لبيتهوفن (واسمُه أصلاً “نشيد الفرح بالحريّة”/مقتبسٌ عن قصيدة الشاعر الألماني شيللر) كأنّ موسيقارنُا صفوان بهلوان أرادَ لنا ألّا نيأسَ رغم الانكسارات، أن نبتهجَ رغم الخسارات، وأنه مهما اشتدت مِحَنُ الإنسان؛ عليه أن يؤمنَ بموسيقا قلبه.

إيماني ساطع!

انتهى الحفلُ بشحنةٍ عاطفيةٍ حماسيةٍ وطاقةٍ تفاؤليةٍ وإعجابٍ بأنَّ كلَّ برنامج الختام (تأليفاً موسيقياً وتوزيعاً أوركسترالياً وعزفاً وقيادةً) كان بأيدي موسيقيين سوريين يكبّرون القلب فرحاً.
خرجتُ من الأمسية وقلبي يغنّي:
“مهما تأخر جايي
ما بيضيع اللي جايي عَ غفلة بيوصل من قلب الضو
من خلف الغيم
إيماني ساطع يا بحر الليل
إيمان الشمس المدى والليل
ما بيتكسّر إيماني ولا بيتعب إيماني
إنتَ اللي ما بتنساني…
أنا إيماني الفرح الوسيع، ومِنْ خلف العواصف جايي ربيع…جايي ربيع”!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار