عفيف بهنسي في ذكرى الغياب.. مَلأ المكتبة السورية فكراً وفنـّاً
تشرين- لبنى شاكر:
رغم عدم وجود مؤسساتٍ ثقافيّةٍ وفنيةٍ آنذاك، إلا إن عفيف بهنسي 1928-2017، استطاع في أولى خطواته، أن يُوجد طريقه بين الخاص والعام، فهو لم يكن باحثاً ومُؤلفاً وفناناً ليرضي طموحه فحسب، بل ليتيح كل ذلك للجميع، ليس فقط لأبناء جيله، إنما لنا أيضاً. ويوم أُنشئت وزارة الثقافة قال له أحدهم كما استحضر في أحد لقاءاته: «ماذا تعني ثقافة وليس لدينا حتى مجارٍ لتصريف المياه القذرة»، لكنه مع رفاقه تابعوا المسير، فكانت دراسته في دار المعلمين ثم في كلية الحقوق ودبلوم العلوم الإدارية في جامعة دمشق، وفي الوقت نفسه، عمل على تطوير موهبته في إنجاز اللوحات والأعمال النحتية مع تنمية معارفه النظرية، فدرس الفن في باريس وتاريخ الفن في معهد اللوفر، ثم حصل على الدكتوراه في تاريخ الفن من جامعة باريس السوربون، وبعد 14 سنة عاد إلى الجامعة ذاتها ليحصل على دكتوراه الدولة.
تولّى بهنسي إدارة عددٍ من المؤسسات الفنية.. لكنه مع ذلك ظل وفياً لفكرة الديمقراطية فيها التي تغيب عن عددٍ من مؤسساتنا هذه الأيام
إنجازاتٌ فردية وعامة
التقيتُ بهنسي الذي مرّت منذ أيام ذكرى رحيله، في ندوةٍ أقامها اتحاد الفنانين التشكيليين لتكريمه قبل عامٍ من وفاته، تضمنت معرضاً فنياً وعرضاً لفيلم عن حياته أعده الصحفي والناقد سعد القاسم وأخرجته وصال عبود، يومها قال مؤسس كلية الفنون الجميلة ومراكز الفنون التشكيلية في سورية: «اللبنات الأولى التي استطعنا بناءها لم تكن سهلةً لكننا امتلكنا الإمكانية والطاقة، لأننا أصحاب حضارة، وكان واجباً علينا استرجاع مقوماتها». وعليه كانت سيرةٌ حياتيةٌ حافلةٌ بالعلم والإبداع، في ما يصعب حصره من إنجازاتٍ فرديةٍ وعامةٍ، سواءً على صعيد الدراسة والتعليم والإبداع التشكيلي أو على صعيد العمل المميز في مجال الآثار والمتاحف، وتأسيس هيئات فنية وثقافية، ونشر مؤلفاتٍ وفيرةٍ عن الحضارات القديمة وإرثها المعماري والفني والفكري.
إنتاجٌ مُتاحٌ للجميع
آمن أستاذ تاريخ الفن والعمارة أن المؤلفات التي قدمها ستجيب عن أسئلة مختلفة بعد عقود طويلة، فهو منذ وجد خزانتنا المعرفية قاصرة في عدة مجالات، كان دأبه أن يقدم دوماً تصحيحاً وتقويماً للنقص الموجود، وهي ليست مِنّة على الوطن أبداً، بل واجب قُوبل بالكثير من الوفاء، لذا لم يُرد كما قال أن تكون مبادرات تكريمه إعلامية، وإن كانت بالنسبة له مكافأة.
وفي عمله تعاون مع دور نشر كثيرة، ومع المنظمات الدولية كاليونسكو التي أصدرت له خمسة كتب، وهي حالة نادرة بالنسبة للفنانين والكتاب العرب. يُعلّق بهنسي هنا: “أردت أن يكون إنتاجي متاحاً للناس جميعاً من خلال أكبر بوابة ثقافية في العالم، فكانت لي معاجم وموسوعات حين كانت المكتبة السورية فارغة من مؤلفاتي، وما زلت أعتقد انني لم أسد جميع رفوفها لكن كل عمل يبدأ خطوة بخطوة”.
تعاون مع دور نشر كثيرة.. ومع منظماتٍ دوليةٍ كاليونسكو التي أصدرت له خمسة كتب
مكانة الثقافة الفنية
أراد التشكيلي أن تكون الثقافة الفنية هي الخلفية الأساسية للعمل الفني، ولم يخفِ سعادته بما باتت تتيحه كلية الفنون الجميلة من دراسات عليا، وجد من خلال متابعتها تطلعاً هاماً جداً فيما يتعلق بفلسفة الفن وتاريخه وقضاياه، لذلك لطالما أكد أن الكلية كانت وما زالت مصنعاً للفنانين، الذين كانوا بمنزلة سفراء انطلقوا إلى أرجاء العالم، يقول بهنسي: “أنحني أمام الجهود التي تقوم بها الكلية وفنانوها، وأتابعها باعتزاز، ولطالما قلت إن فناني اليوم أصدقائي، يتابعون الرسالة التي أردت أن تكون بلا حدود، فالفن التزام وأخلاق، وحين تحدثت عن فلسفة الفن تساءلت: لماذا نتبع المذهب الجمالي للغرب؟ ووجدت أن هناك ما يسمى علم الجمال الهندي والمكسيكي وغيره، ووجدت أيضاً أن الفن ليس تسلية أبداً حتى لو كان نقشاً أو خطاً، فهما عبقرية تشكيلية”.
منذ وجد خزانتنا المعرفية قاصرة في عدة مجالات كان دأبه أن يقدم دوماً تصحيحاً وتقويماً للنقص الموجود
الديمقراطية في الإدارة
تولّى بهنسي إدارة عددٍ من المؤسسات الفنية والثقافية، جزءٌ منها أسسه أو كان من مُؤسسيه، لكنه مع ذلك ظل وفياً لفكرة الديمقراطية فيها التي تغيب عن عددٍ من مؤسساتنا هذه الأيام، فهو مثلاً كان واثقاً من عدم قدرته على إدارة اتحاد الفنانين التشكيليين وحده، لذا دعا الفنانين في ذلك الزمن ليمارسوا حقهم في إدارة نشاطاتهم والدفاع عن هويتهم، كما شارك في تأسيس جمعية أصدقاء الفن مع الفنانين صلاح الناشف وأدهم إسماعيل وغيرهم، وكانوا يعلمون التصوير مجاناً للهواة، وكان مسؤولاً عن العديد من الحملات الاستكشافية في المديرية العامة للآثار والمتاحف، بالتعاون مع ما لا يقل عن ألف عالم آثار للبحث والتنقيب، تبعاً لما تذكره الموسوعة الدمشقية، ولم يُذكر يوماً أنه استأثر لنفسه بإنجازٍ أو مديحٍ أو نجاح.