مع كل هذا الضخ الإعلامي الذي لا يتوقف حول ترامب، يشعر المرء وكأن كل العالم يدور حوله، ومن نافل القول هنا إن هذا الضخ مقصود ومدروس رغم أنه يبدو أقرب إلى حملة علاقات عامة/ترويج ودعاية/ استباقية قبيل التنصيب الرسمي في 20 كانون الثاني المقبل. وعملياً يمكن القول إن هذه الحملة نجحت، نوعاً ما، في وضع العالم في حالة ترقب وانتظار.
أكثر من ذلك، نجحت هذه الحملة في الترويج لمسألة أن ترامب وبمجرد أن يجلس في المكتب البيضاوي فإن الأزمات العالمية/الصراعات والحروب/ ستنتهي الواحدة تلو الأخرى، وسينعم العالم بسلام ما بعده سلام، وعدالة إنسانية ما بعدها عدالة.. وأن الخصوم الاستراتيجيين للولايات المتحدة سيعودون لتسليم راية القيادة لها مجدداً لتتنعم بعلاقات تحكّم وسيطرة على خريطة اقتصادية جديدة بفضل هؤلاء الخصوم الذين سيتخلون عن مكاسبهم وامتيازاتهم العالمية التي حققوها على مدى عقدين ونصف العقد كانت واشنطن خلالها غارقة في إدارة أكثر الحروب الكارثية التي انعكست بشكل مباشر عليها وعلى زعامتها الدولية.
هكذا.. يُخيل لنا وكأن ترامب عائد بعصا سحرية، يكفي أن يرفعها ملوحاً، ثم يشير بها إلى كل حرب أن تهدأ وتنتهي فيكون له ذلك.. فهل الأمر بهذه البساطة، وهل الذين يقفون وراء هذا الضخ الإعلامي يعتقدون أن الأمور ستسير بهذا اليسر والسهولة لمجرد أنهم يعتقدون أن العالم سيبني مواقفه على ما كانت عليه ولاية ترامب الأولى (2016-2020) وعلى أن ولايته الجديدة ستكون أشد شراسة، ولا بد من اتقاء شروره، وتمرير السنوات الأربع المقبلة على خير معه.
فعلياً، لا يُضيّع ترامب الوقت، منذ فوزه في الـ5 من هذا الشهر، وحتى قبله، يعمل على أكثر من قضية، وهو يُصرح بذلك بصورة دائمة، وهو اليوم يعمل مع من اختارهم لإدارته الجديدة، لتقديم خطط ومقترحات وتسويات، لتشهد ولايته منذ بدايتها إخماد أخطر الأزمات وأكثرها تأثيراً على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً في الشرق الأوسط.. أو على الأقل أن يشهد تنصيب ترامب بداية وضع أول قدم على طريق إنهاء هذه الأزمات.. بدءاً من منطقتنا، من الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان والتي تكاد تنهي شهرها الـ14. وذلك في محاولة للتركيز على الصين وحدها والتفرغ لها.
مرة أخرى، من غير المعروف ما إذا كان ترامب ومرشحو إدارته يعتقدون أنه من السهولة الانتهاء من الشرق الأوسط (أو أوكرانيا) ثم التفرغ للصين، أو أنهم على دراية كافية بما بات عليه بعد أن قسمه طوفان الأقصى (7 تشرين الأول 2023) إلى حقبتين – ما قبل وما بعد – بخطوط علّام حادّة، طولاً وعرضاً.. إلا إذا كان هؤلاء يراهنون على أن رئاسة ترامب المقبلة ستكون أيضاً وفق المعادلة ذاتها، ما قبل وما بعد.. ما قبل ترامب وما بعده.
يتفق أغلب المحللين على أن الشرق الأوسط، ومنذ بدء الحرب الإسرائيلية الأكثر وحشية وهمجية، لم يَعُد، ولن يعود إلى الشرق الأوسط نفسه قبلاً، أو سيتحول إلى شرق أوسط جديد كما تريده أميركا، بل إن وضعية «عديم اليقين العنيف» التي أفرزتها الحرب الإسرائيلية، ستبقى مستمرة طالما أن الكيان الإسرائيلي لا يريد إنهاء الحرب إلا وفق شرط واحد فقط هو استسلام الطرف الآخر الكامل.. وأكثر من ذلك تسليم رقبته إلى الكيان وفق صك هزيمة موثق بالتاريخ والشهود..
ولأن الطرف الآخر ليس مهزوماً ولا يزال يقاتل، بل هو منتصر في مواضع كثيرة، فإن الكيان الإسرائيلي سيواصل أقصى ضغط ميداني عدواني على غزة ولبنان وسورية (وإيران) في سبيل إنهاء الحرب وفق ذلك الشرط، وليفي بوعده الذي أطلقه مؤخراً من أنه سيقدم لترامب هدية إنهاء الحرب في جبهتها اللبنانية قبل تنصيبه، كانتصار سياسي مسبق له.
لا شك أن ولاية ترامب الثانية ستكون مختلفة عن الأولى، ولكن هل ستكون فرص النجاح أكبر؟.. وإذا كنا نتحدث عن الحروب فقط، فماذا عن الدول الحليفة في المنطقة وخارجها، بعدما دار الزمان دورات عدة في ولاية بايدن؟
كل الأجوبة مؤجلة، بل لا يمكن التنبؤ بها، خصوصاً في منطقتنا.. لا بد من الانتظار وإن كانت السياقات العامة لا توحي بأن مهمة ترامب ستكون سهلة على الإطلاق، إلا إذا اختار ترامب إنهاء الحرب بالحرب، وهذا ما يبدو واقعياً أكثر في ظل أن حروب منطقتنا لن تنتهي عبر هدن وتسويات ومقترحات.. وعليه ربما علينا التجهز لجغرافيا حروب أوسع.. ربما.
مها سلطان
57 المشاركات