بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة… انحلال الفلسفة وهروب الفيلسوف
تشرين- ادريس هاني:
هذه الفلسفة التي كان من المفترض أن تظلّ مناضلة، وجب أن تُسائِل حاضنها الذي أفرزه الجدل الهيغلي عشية الحرب العالمية، حيث بات هناك غالبون يحتكرون اللّوغوس، ولم يعد في وسع الهيئة الأممية أن تعترف بالفلسفة كطريقة مشتركة في التفكير الحرّ. اليوم السؤال موجه لليونسكو حاضنة هذه الذّاكرة الجريحة، في شروط انقلابية على المواثيق الدولية المعنية بالثقافة والإنسان، لا يمكن لضمير الثقافة العالمية أن يكون فرعاً يقع تحت طائلة الفيتو. هل هناك قبعات زرق خاصة بحماية التراث اللاّمادّي للشعوب؟ ذلك التراث الذي تدكه يومياً وفي أكثر من مكان جنازير الدبابات وصواريخ الـ(35 F)؟ هذا ناهيك عن الإبادة التي تستهدف حامل هذا الميراث الإنساني.
تؤكّد الفلسفة بالتخفيض(en réclame) بأن حاملها غير معني بأي شكل من الاشتباك بواقع يمتلئ بالأحداث. وبذلك يعلن حاملها استقالته من مهمّته التّاريخية، باعتبار أنّه معنيّ بمفهوم الحدث وبصيرورة الوعي، إذ التّاريخ هيغلياً ما هو إلاّ هذا الختم المستمر للعقل في العالم، مرآة لتحقق الواقع ومن خلاله تَمَوُجُد الذّات. إنّ التّاريخ هو التجلّي لهذه الروح، وأنّ بصمة الوجود الإنساني التي تستند إلى الرغبة في الاعتراف، هي أسمى تعبير عن الحرية.
تمثّل المقاومة التجسيد الفعلي للرغبة في الاعتراف، إنّها في صلب المطلب التّاريخي للحرية، وإنّها الخيار الذي ليس بعده سوى الرغبة في مقايضة الحياة بالعبودية. إنّ «الأنا» التي ألحّت في الظهور عبر الكوجيطو الديكارتي، كجدل داخلي هي مع هيغل «أنا» مشتبكة في التّاريخ مع العالم الآخر كواسطة في تأكيد تموجدها عبر الاعتراف، حاجة الآخر هي نفسها حاجة الكوجيطو، لا من حيث الوعي بالذّات بل من أجل تحققها في التّاريخ، الوعي بالذات هيغلياً بوصفه كوجيطو متخارج تاريخياً واجتماعياً.
في جدل السيد والعبد تحضر الرغبة في الاعتراف كشرط لعدم الانحناء. هنا لن تصبح حالة الطبيعة أخطر من الاجتماع التعاقدي، حيث النزعة الصراعية حتمية تفرضها الرغبة في الاعتراف. يُشارط السيد المغلوب في هذه المعركة على الخدمة، وبالفعل، هذا ما يسعى إليه جدل العلاقات الدولية في مدرك الصراع الهيغلي، العقد الاجتماعي والدولي العميقان، حقّ الأقوى في امتلاك خدمة الأضعف مقابل الحق في الحياة. وهو جدل ينطوي على رغبة أخرى أو لنقل على جدل خفي، تقدحه الرغبة في العمل. يؤمن هذا الجدل المدمج في الجدل الكبير أُنس الأضعف في تشكيل العالم، وهي رغبة تلازم الشعور بالحرية. وهذا يؤكد أنّ الجدل المدمج هو الذي يشكل مخرجاً تاريخياً لتخفيض التّوتّر على مستوى الجدل الكبير. فالعبد يستمتع بالمساحة التي يتيحها العمل، ذلك العمل الذي يمنح قدراً من الوعي بالذّات، به يتحقق الوجود، هيغلياً وسارتيرياً أيضاً.
اليوم يبدو الفيلسوف مُطالباً أكثر باستيعاب هذا الجدل، منطق القوة كبديل عن الحقيقة، عدالة القوة التي جاوزت الحدود الهيغلية، حدود الاعتراف، لتصبح جزءاً من اللّذة الفائقة، الرغبة في الموت، من دون مقايضة، هذه القوانين التي تنظم السلام العالمي، باتت مهددة، أهي القوانين التي اعتبرت صناعة للضعفاء: نيتشه تأثراً بكاليكلس، أم هو شرط البقاء ولو في هذا الاشتباك العمودي الذي يسعى لتغيير الخريطة الذهنية قبل الخريطة الجغرافية؟
انفتحت الأمم المتحدة على نقاش حول السيادة انتهى إلى ضرب من الواقعية، واقعية تحمل تصميم الاستسلام، أي لا توجد سيادة كاملة. وهذا يصبّ في جدل صراع السيد والعبد، إذ العلاقة العمودية تلك، تسلب الكمال عن سيادة العبد، شيء من الحرية المنقوصة والسيادة في حدود الخدمة، الجدل الصغير في الجدل الكبير، حاجة السيد نفسه لهذا الاعتراف، يجعل حياة العبيد شرطاً في وعي السادة بوجودهم. وفي المجال الدولي ليس شطارة أن تحافظ على سيادتك المنقوصة إلاّ بمخرج الاعتراف والاستسلام لكل شروط الغالب.
العالم اليوم يشهد ذروة الإبادة، وحتى عدالة الأقوى لم تعد تفترض قدراً من البلاغة، ففي ذروة هذا الصراع اليوم وشموليته يتم تقويض سقراط وكاليكليس معاً، فالمُخَاطِب اليوم لا يحتاج إلى بلاغة لتزيين عنفه، العنف بات سافراً، ووجب على العبيد المفترضين أن يدركوا أنّ سادة القوة يزاولون مهمّتهم الانقلابية على كلّ المواثيق والقيم الإنسانية بلا هوادة.
تظلّ المقاومة هي آخر ما تبقّى من إرادة الوجود، وبأنّها كفاح يجسد الرغبة في الاعتراف، وبأنها عنيدة عناد الأقوى في إصراره على احناء العالم لرغبته في الإلغاء. بل هي آخر أشكال التعبير عن الوجود والحرية ومعنى الإنسانية على هذه الأرض، ذلك لأنّ هذا الشعور والرغبة في الاعتراف ملازمة لكلّ كائن واعي، بل إن شئنا القول، فهي لازمة لكائن ميزته الأكبر أنّه ليس فقط واعياً بوجوده، بل باحثاً عن تحقق هذا الوجود في أثر يتسامى عن الحساسية إلى الوعي المتعالي بوجوده وإشعار الآخر بهذا الوجود.
لا مانع من استمرار الصراع، لكن الأخطر اليوم أنّه صراع تجاوز الجدل الهيغلي بل وبلاغة كاليكليس، حيث الأقوى اليوم جاهل بفنون القول، عالم فقط بفن الإبادة.
إنّ الفلسفة في ذكرى عام الإبادة الجماعية، تجد نفسها أمام ضرورة إعادة السؤال حول هشاشة النظام الدّولي، وهي اليوم عربياً تشكو من غياب الفيلسوف الغربي، وإن حضر آحادهم، لكن في مجال حرّ باتت كُلفة هذا الموقف أكبر بكثير، وبها سقطت خرافة المجتمع المفتوح والحرّ، وخرق الجدل الهيغلي بتركيب لا يستدمج الجدل الصغير الذي قوامه العمل في الجدل الكبير الذي قوامه الاعتراف، أي العمل بما يؤمنه من شعور بالوجود والجدل الكبير بما يؤمنه من اعتراف وانحناء، أجل، بعد هذا الخرق بات المخرج هو الإبادة السافرة. إن الفلسفة برمتها كما حملها الفيلسوف الجبان الخائن لمقتضيات القاطيغورياس، توجد في هذا التجلّي الذي تعبر عنه المقاومة بوصفها اليوم وكما كانت دائماً في التاريخ، تجليّاً سافراً للروح المطلق.
يستهدف الخراب اليوم مفهوم التفاوض، وسياسة الرابحين معاً، إنّها الهمجية والدّاروينية العارية في السياسة الدولية، تلك التي أنتجت فلاسفة خانوا الفلسفة ومقولاتها، فلاسفة لم تكن ضربتهم للجسد الفلسفي ضربة صموت، بل أعلنوها بوقاحة جنوحاً لإدانة المعذبين في الأرض، وسلب ما تبقى من معنى للرغبة في الاعتراف والحرية من فُرسان الكفاح الوطني، لقد خان هابرماس الجدل الهيغلي ومحاورة سقراط لمن كانوا على الأقل أهل بلاغة وبيان، ميل وخيانة لمحاورة أفلاطون المذكورة، وهو من بُحّ صوته بالنقاش العمومي بشروط ليبرالية داروينية، فكان عاماً كبيساً على الفلسفة وأهلها، عام خيبة الأمل الفلسفية، إلاّ من كانوا يتطهّرون في مقولاتها الكبرى، ويدركون أنّ الوعي هو صيرورة متكاملة في التّاريخ وبالتّاريخ، ولا يخضعون لإملاءات صندوق «القَوْل» الدّولي.
كاتب من المغرب