طقوسُ الكتابة وعاداتُ الكتّاب… هل اغتالتِ الحربُ جنّياتِ الإبداع؟!
تشرين- جواد ديوب:
الكلماتُ، كم هي متفلّتةٌ جموحةٌ وعصيّةٌ أحياناً، مطواعةٌ سلسةٌ في أحيان أخرى، وكم هو كاتبُها/مبدُعُها كائنٌ ينوسُ بين خفّة لاعبِ سيرك في التقاطها وصياغتها مهما عذّبته مرارةُ الأيام، وبين تسويفِ أرنب الحكاية الكسول معتقداً أن “ربّاتِ الإلهام” واقفاتٍ في خدمته ومن أجله عند كل درب سيسلكه، وأنهنّ سيضعن “جِنّيات الإبداع” في خدمته متى شاءَ ليكتبَ ما يجوسُ في أعماقه وما يتفتّقُ من كوامن روحه! لكن هل توجد طقوسٌ خاصة عند الكتّاب يتخذونها كعادةٍ لهم مهما تقلّبت الظروف؟ وكيف أثرت الحرب وأخبار النزوح على “آلية الكتابة” لديهم؟!
سعاد محمد: بعضَ النصوص انفعاليةٌ؛ يتحركُ جيشٌ من العواطف، يحمل عدّته الأدبية لينقضّ على اللحظة الملهمة ويحقق نصره الشعري
صحيفةُ “تشرين” سألت الشاعرة سعاد محمد فأجابتنا بأن علينا أن نتفق بدايةً “أن الروح الشاعرة لا تأخذ عطلة، هي متأهبة دائماً لتلقي الإلهام. يختلف أسلوب خلق نص عن آخر بحسب محمولاته واللحظة الشعورية التي ينبثق فيها، ولا تؤتى النصوصُ كلها بذات الطريقة، في أيٍّ مِن عُمْرِ الشعر، ومهما اختلفت الأمكنة التي يعيشُ فيها والظروفُ التي ولد في ظلالها”.
أطيافُ النصوص!
من هذه الفكرة التي ترجّح غلبةَ مضامينِ النصوص على مفاعيلِ الواقع وآثاره ترى الشاعرة سعاد أن “بعضَ النصوص انفعاليةٌ؛ يتحركُ جيشٌ من العواطف، لا يحتملُ التأجيل، يحمل عدّته الأدبية لينقضّ على اللحظة الملهمة ويحقق نصره الشعري. هذه النصوص تأتي خاطفةً، هينةً، كأنْ تمدَّ يدَكَ خلفَ السياج وتقرصَ خدَّ وردةٍ، وربما تدميك شوكة، لا بأس، فلنصوصنا أثمان ندفعها من أرواحنا عن طيبِ خاطر (الألم حبيبنا اللزم/تبتسم!).
و”أحياناً – تستمر الشاعرة في حديثها- يجيءُ النَصُّ على هيئةِ زفرةٍ تُخرِجُ مِن داخلك كل ما فاقَ طاقةَ تحملك من مشاعر وهواجس، فترتاح؛ إنه النصُّ العلاج! هذا النوع لا يحتاج إلى الكثير من الترتيبات النفسية لولادته، يتسرب منك كقطرة عرق، وثمة نصوص تعذبك، تنتظرها كصيادٍ في مكمنه، يرى طريدته ولا يستعجلها… للانتظار لذته الفاخرة أيضاً، وكلما تمنعت الطريدة؛ كلما كان الصيد أغلى، حتى لو هربت الطريدة، أو كبا سهمُ الشاعر لن يقلق، فبراري الروح ترهج بالأفكار الحية والمشوقة”!
*لكن ألا يوجدُ لديكِ طقسٌ خاصٌ لاصطياد طرائدَك/قصائدك؟
تقولُ سعاد محمد”: “أحتاجُ سقفاً وليلاً، وأيضاً عزلةً وغربة. أحتاجُ مغادرة لحظاتي العادية، ومسح الوجوه المألوفة، ثم الانفلات في غابة ذاتي حتى أتغرب عن مألوفاتي المملة، أتتبع أثرَ الفكرة ما شاء لها الطراد، وأتنشقُ الوجوه الغنية بالإلهام، ففي المناطق البكر يحلو صيد الشعر”!
يحيى زيدو: عندما أكتبُ على الكيبورد أشعرُ بمسافة باردة بيني وبين النص، لذلك غالباً ما أكتب على الورق ثم أنقلها إلى الحاسب.. هذه العادة ربما أتشارك فيها مع معظم أبناء جيلي
البحث عن الحاجيات بدلاً من الكلمات!
أما عند الكاتب والباحث “يحيى زيدو” فتختلف طقوسُ الكتابة بين مرحلة عمرية وأخرى، وبين زمنِ وآخر. يقول لنا إنه “قبلَ الأزمة كان يومُه منظماً إلى حد معقول، تستطيعُ أنْ تجدَ خلاله وقتاً للقراءة والكتابة وفق طقوس تعتقد أنها مناسبة. كان النهار لمشاغل الحياة، أما القراءة فللمساء، والكتابة تكون في الصباح الباكر غالباً وفي المنزل لأنني لستُ من رواد المقاهي بغاية الكتابة كما يفعل كثيرون، ولا أذكر أنني أنتجتُ جملةً واحدةً في أي مقهى! لكن ومنذ حوالي أربعة عشر عاماً، وبسبب الحرب، تغيَّرت الكثير من عاداتنا وأفكارنا – يسردُ لنا زيدو بشيءٍ من الأسى- لم يعد النهار منظماً بل فوضوياً ممتلئاً بهموم البحث عن الحاجيات اليومية في ظل الغلاء الفاحش، وأزمة الكهرباء والتدفئة والنقل، ومتطلبات الأمان؛ فتقلصت ساعات القراءة، كما تقلصت ساعات الكتابة وتغيَّرت عاداتها عندي”.
مسافةٌ باردة!
*ماذا تقصد بعاداتِ الكتابة عندك؟ نستوضحه، فيجبنا زيدو بقوله: “كان القلم والورقة مثلاً رفيقين مُلازمين لي، فأنا أعشق رائحة الحبر والورق. اليوم، وبسبب الأزمة الاقتصادية، باتت الكتابة على اللابتوب هي الغالبة. عندما أكتبُ على الكيبورد أشعرُ أن ثمة مسافة باردة بيني وبين النص الذي أكتبه، لذلك غالباً ما أكتب نصوصي الأثيرة على الورق قبل أن أنقلها إلى الحاسب. هذه العادة ربما أتشارك فيها مع معظم أبناء جيلي”.
مفيد أحمد: طقسُ الكتابة لا يشكل شرطاً إبداعياً بالنسبة لي إنما قد يكونُ متمماً ومحفزاً فقط للكتابة، وهو أقرب للعادة التي تقوم على حساسية تتعلق ببنية سايكولوجية وبمكونات بيئية
فيما يبدو الروائي “مفيد عيسى أحمد” أكثر مرونةً، بل أكثر قدرةً على التعاطي مع خشونة الواقع وظروف الكتاب الحياتية فهو لا يعتقد أن طقسَ الكتابة يشكل شرطاً إبداعياً بالنسبة له “إنما قد يكونُ متمماً ومحفزاً فقط للكتابة، وهو أقرب للعادة التي تقوم على حساسية تتعلق ببنية سايكولوجية وبمكونات بيئية، والبيئة هنا تعني البيئة الحيوية للمبدع بكل مكوناتها: المكانُ والزمانُ، الأحياءُ والموروثُ والأحداث…إلخ.. ولذلك فقد كتبت روايتي “الماء والدم” حيثُ كنتُ أعمل في مؤسسة إنشائية وأستغل وقتَ الفراغ في الكتابة، وغالباً ما يكون حولي أشخاصٌ ومؤثراتٌ أخرى من أصواتٍ تصلُ إلى حدِّ الضجة، وكنتُ مضطراً أحياناً لقطع الكتابة أو الفكرة من أجل أمر آخر، كما كتبت مجموعاتي القصصية والشعرية في ظروف غير متماثلة، أغلبها بعيد عن الهدوء”.
وبعكس الباحثِ زيدو العاشق لملمس الورق ورائحة الحبر ينحو الكاتبُ مفيد عيسى نحو التكنولوجيا بكامل أبعادها فيما يشبه طقساً جديداً أو عادةً مكتسبةً بفعل الزمن الجديد، يقول لنا: “لم أعد أستطيعُ الكتابةَ إلا بواسطة الكومبيوتر، قد أضعُ أحياناً خطوطاً وأفكاراً بالقلم، أما الكتابة كفعل إبداعيٍّ متكاملٍ فلا يمكنني إنجازُها إلا بالكومبيوتر”.
لكن الروائي مفيد عيسى أحمد وقع مثلُ الكثيرين تحتَ تأثير الحرب بتداعياتها وعقابيلها، ويخبرنا كيف أنه كان في دمشق حتى نهاية ٢٠١٣ “حينَ كان المناخُ الثقافيُّ لا يزال في زخم جيد، واندفاعنا للكتابة صار له طابع آخر، فلا يمكنك أن تكتب في زمن الحرب بنفس الطريقة التي تكتب فيها في زمن اللاحرب، نعود هنا إلى مفهوم البيئة الحيوية التي تتأثر بالحرب وقد تُخرِّبُها، وهذا لا شك سيؤثر على الشرط والنِتاج الإبداعي بشكل عام، وبالنسبة لي هذا تجلى في مجموعتي القصصية “حارس الفلة البنفسجية” التي أتَتْ قصصُها في أغلبها عن الحرب؛ كعقابيل وليس كأحداث، أي لم أتناول الحرب كفعل عسكري، بل بأثرها الإنساني وذلك من منطلق وطني أفصح عن موقفي منها، فالكتابة عن الحرب حين الحرب؛ أمر صعب وله محاذيره، فما يحدث على الأرض قد يفوق بأضعاف ما نريد التعبير عنه وما نكتبه. بالنسبة لي مغادرة دمشق كان لها أثر سلبي؛ فقد احتجت إلى زمن ليس بالقصير حتى اعتدت البيئة الجديدة من مكان ومعطيات أخرى، وقد مررت بما يشبه الترويض حتى عدت إلى الكتابة”.
تدريبُ الذائقة!
الشاعرةُ سعاد محمد تؤمنُ أنّ صقل الموهبة وتدريب الذائقة وتجميل وجوه نصوصها يكمنُ في القراءة بأضعافَ مضاعفة عما تكتبه، تقول لنا:
“ولأن المهارة حظ المجتهد – ولنسلّم بأن الشاعر ولد بشامةِ الموهبة- يبقى عليه امتلاك أدواته وتطويرها لتكتمل وسامته الشعرية. هنا يكمن دور القراءة والتأمل! وعن نفسي أقرأ آلاف المرات أكثر مما أكتب، ومن قراءاتي أستمد مواردي اللفظية المتجددة، وأصقل ذائقتي الأدبية، كما أنها تلهمني أفكاراً لبعض النصوص، فثمة أفكار تعلق بنا كما يعلق شالٌ بشجرة شوك، ولا تقتصر قراءاتي على الشعر، إنما تمتد إلى الأجناس الأدبية كافة، فالقراءة تهدينا أبعاداً إضافية للرؤى، وإحساساً أكثر دقة بالفكرة المراد الكتابة عنها”.
أما الكاتبُ زيدو والذي يعشقُ فوضى الكتب المتناثرة حوله عندما يكتبُ بحثاً نظرياً وليس نصّاً إبداعياً، والذي يستمتعُ بالكتابة في فصلي الخريف والشتاء وينتجُ فيهما أكثرَ وأفضل مما ينتجه في فصل الصيف المقيت -على حد تعبيره- يبوح لنا ويقول:
“إنّ رفيقتَه الدائمة في الكتابة عموماً، إلى جانب الورقة والقلم، ولاحقاً الكيبورد، هي السيجارة! فعندما أمسك كتاباً للقراءة، أو قلماً للكتابة، بشكل لا شعوري أشعل سيجارة، فلا أستمتع بأي الشغفين؛ القراءة أو الكتابة، دون سيجارة، يضاف إلى ذلك فنجان القهوة أو كأس المتة الذي أصبح لازمةً معهما بكل تأكيد”.