في ذكرى غياب صلاح دهني.. الأبطال مازالوا يُولدون مرتين
تشرين- لبنى شاكر:
تتصف تجربة صلاح دهني 1925-2017 بالفرادة، ليس فقط في تخصص الراحل في السينما ثم اشتغاله على مؤسساتٍ تُنتج هذا الفن بعيداً عن المعنى المادي المجرّد لفكرة «الإنتاج» نحو الرعاية الحقيقية، بل في اشتغاله أيضاً على «النقد»، وهما داعمان أساسيان افتقدتهما السينما السورية مع الزمن لمصلحة الانتقائية والكتابة الوصفية، يمكن عدّهما الأكثر إلحاحاً في حديثنا عن الناقد الأبرز في ذكرى رحيله السابعة التي صادفت السابع والعشرين من الشهر الجاري.
في السينما …
خاض دهني مشواراً تتزاحم فيه النضالات والانتكاسات، وكانت النتائج في المقابل عصيةً على الحصر بين الإخراج والترجمة والتلفزيون والأدب، وإن كانت تجربته المؤسساتية تستحق التوقف عندها بشكل خاص، فهي عدا عن كونها بداية فعلية لتأسيس إنتاجٍ سينمائيٍّ سوريٍّ، استطاعت أن تلمّ بالكثير مما يحتاجه هذا الفن ليحصد جمهوراً محلياً قبل أن نقول عربياً وعالمياً، فحين عاد دهني إلى دمشق بعد أن درس فن الإخراج السينمائي في المعهد العالي للدراسات السينمائية في باريس، ثم (علم الفيلم) في المعهد الفيلمولوجي في السوربون، عُيِّن رئيساً لدائرة السينما والتصوير أثناء قيام الوحدة بين سورية ومصر، لكن هذا لم يكن مجدياً بما فيه الكفاية في رأيه، ولاسيما مع وقوع الانفصال، لذا كان عليه أن يقنع المعنيين وقتها بتأسيس المؤسسة العامة للسينما عام 1963، وأصبح فيما بعد مديراً لشؤون الإنتاج السينمائي فيها.
أدخل صلاح دهني السينما إلى حيز معرض دمشق الدولي بوصفه الفعالية الاقتصادية الأكثر شموليةً في تلك المرحلة
استطاع السينمائي المتحمس أن يُدخل السينما إلى حيز معرض دمشق الدولي، بعدِّه الفعالية الاقتصادية الأكثر شمولية في تلك المرحلة، فكان أول مهرجان سينمائي عربي بموازاة الدورة الثالثة للمعرض عام 1956، وفي زمنٍ لاحق ترأس عدة دوراتٍ لمهرجان دمشق السينمائي. ويُحسب لدهني وفق ما يذكر الباحث غسان كلاس، التنسيق بين موعدي مهرجاني دمشق وقرطاج السينمائيين، حيث يُعنى الأول بالأفلام العربية والآسيوية، ليختص نظيره بالأفلام العربية أيضاً وسينما شمال إفريقيا.
أسس دهني بالشراكة مع أسماء سورية كبيرة «رابطة الكتاب السوريين» والتي انبثق عنها فيما بعد اتحاد الكتّاب العرب
ميادين أخرى…
في عوالم المؤسسات الثقافية كذلك، أسس دهني بالشراكة مع أسماء سورية كبيرة منها “حنا مينه، سعيد حورانية، شوقي بغدادي، فاتح المدرس”، «رابطة الكتاب السوريين» والتي انبثق عنها فيما بعد اتحاد الكتّاب العرب، لكن تلك الرابطة لم تكن معزولة عن الناس أو نخبوية، يقول كلاس إن «الرابطة رفضت أن يكون الفن للفن، أرادته أكثر قرباً من الجمهور»، وهو ما استغنت عنه اليوم نماذج وتشكيلات ثقافية عديدة، والنتيجة نراها على سبيل المثال في حضورٍ مُزدحم لمعارض التشكيل في يومها الأول فقط، معظمهم صحفيون ومقربون من صاحب المعرض.
عام 2008 كُلّف دهني بوضع كتاب احتفاء بدمشق عاصمة للثقافة العربية، فكان كتابه «سينما الحب الذي كان» أقرب لسيرة ذاتية تُضاف إلى فيلمه الروائي عام 1976 «الأبطال يولدون مرتين»، والعديد من الأفلام الوثائقية القصيرة والمجموعات القصصية والدراسات النقدية التي امتدت لتطول عمله في الإذاعة، حيث قدّم في إذاعة دمشق برنامجاً نقدياً سينمائياً عنوانه «السينما في أسبوع» ثم غيّر اسمه ليصبح «صوت وصورة».
قدّم في إذاعة دمشق برنامجاً نقدياً سينمائياً عنوانه «السينما في أسبوع» ثم غيّر اسمه ليصبح «صوت وصورة»
وفي عوالم النقد يذكر الزميل عماد نداف: “شاركت صلاح دهني تغطية مهرجانات سينمائية، تعلمت منه أن النقد يختلف عما يفعله عدد من الصحفيين بأن يلجؤوا إلى السرد والتوصيف، ثم يسمون أنفسهم نقاداً، لا يمكن الاعتماد على النقد المستند إلى انطباع ما بعد المشاهدة، لكن مع غياب الصحفي المختص وقلة الصحف والمجلات المتخصصة في الفنون، عدا عن المجلات الفصلية وهي أكاديمية وليست نقدية، كل هذا يقود الصحفي إلى تغطية اعتيادية مكررة، تُعيد علينا الفيلم مرة أخرى لا أكثر، وتتناسى أن النقد يعيد إنتاج النص من جديد عبر أسس وقواعد تتعلق بالتجربة الفنية وحركة الكاميرا والممثل وغير ذلك الكثير”.
يوميات القضية …
بعد أعوامٍ على رحيل صلاح دهني، يبدو فيلمه الروائي الطويل الوحيد “الأبطال يولدون مرتين”، إنتاج المؤسسة العامة للسينما، والذي أخرجه وكتبه عن قصة “سر البري” لعلي زين العابدين الحسيني، مرجعيةً للمقاربة السينمائية للصراع مع الكيان الإسرائيلي، لكونه من أوائل الأفلام التي عرضت يوميات القضية عن قرب، في المناطق التي احتلتها “إسرائيل” وسعت إلى التطبيع مع أصحابها، الذين كانوا واعين لنواياها، وهو يحكي عن فؤاد البري، طفل في الحادية عشرة من عمره، فقد أمه وأباه في حرب 1967 وعاش تحت سقف رجل عجوز طيب في مخيم اللاجئين الفلسطينـيـين جنوب غزة، شاهد مراراً الهجمات الاسرائيلية على المخيمات والمداهمات ونسف البيوت ومواكب الشهداء، فكان طفلاً مناضلاً بالفطرة في بيئة ثورية مشتعلة، ويمكن القول إن الفيلم يرصد عملية الانتقال النضالي من الفطرة إلى القرار، حيث يصبح هذا الطفل أحد عناصر المقاومة ويصطدم وجهاً لوجه مع رجال العدو في عمل قتالي، يبدأ بإلقاء قنبلة مولوتوف صنعها بنفسه، على سيارة دورية عسكرية إسرائيلية، وهو من بطولة “عماد حمدي، منى واصف، صباح جزائري، فراس دهني”.