الذكرى الأربعون لوفاته جكر خوين… الشاعر الخالد

تشرين- إدريس مراد:

(في منزل بأحد أحياء دمشق (القابون) حيث تسكنه ثلاث عوائل هاربة من الفقر، مستنجدة بدمشق لعلها تسد الرمق.
دخل أبي آتياً من عمله، ليس كعادته مبتسماً ولا حاملاً ما أمكن لنا نحن أطفاله الستة.. بدا حزيناً، دامع العينين، يضرب كفيه إحدهما بالأخرى ويردد “لاحول ولا قوة إلّا بالله…”)، وتابع محدثاً والدتي “لقد مات جكر خوين”، وهنا تعرفت لأول مرة على هذا الاسم الكبير وأنا يافع لم أتعد الرابعة عشرة من عمري، وللوهلة الأولى تخيلت أنه من أقرباء أبي لشدة حزنه، وعرفت كل الأغاني التي كنت أسمعها من صغري بأصوات مغنين أكراد سوريين كبار (شفان برور، سعيد كاباري، دلكش، محمد شيخو، كانيوار، كلستان…” هي من جكر خوين، وأدركت لماذا شتمني ذلك الشخص عندما طلب مني أن أجلب له شريطاً من مكتبة أبي في القرية وأنا أناوله شريطاً من أغاني “شفان” الذي احتوى قصائد ملحنة لجكر ينتقد فيها الاقطاعيين وشيوخ الدين المزيفين.

دمشق تستقبل رفاته
في ذلك المساء التشريني من مساءات دمشق الباردة عام 1984 رافقت والدي وعدداً من الأشخاص أغلبهم عمال لاستقبال رفات جكر خوين القادم من السويد إلى مطار دمشق الدولي، تفاجأت في المطار بعدد كبير من العمال وطلاب الجامعة ومحبي الراحل، شكلّوا صفين طويلين على طرفي الشارع في حرم المطار، ومطر دمشق ينثر رحيماً من فوقهم وحين مرور السيارة بدأ الجميع بالتصفيق وشاركهم العديد من العاملين في المطار، ورددوا بالكردية السورية “جكر خوين لايموت” انطلقت السيارة ومن خلفها حافلات المرافقين حتى وصلوا إلى جسر القابون وهناك توقفت لمدة قصيرة لإتاحة الفرصة لإلقاء النظرة الأخيرة لمن لا يستطيع السفر، ومن هناك إلى القامشلي..

مثل أغلب أبناء جيله تعلّم القراءة والكتابة وعلوم الدين في الجوامع والمدارس الدينية

ولادته ومنشؤه
ولد شيخموس حسن (جكر خوين) في قرية هساري في كردستان تركيا عام 1903 بكنف عائلة فقيرة كأغلب الأكراد في ظل الحكم العثماني الرجعي. توفي والده وهو في الخامسة عشرة من عمره ليدخل معترك الحياة صغيراً، فعمل راعياً قبل أن ينتقل للعمل في مؤسسة الخطوط الحديدية، ومثل أغلب أبناء جيله تعلّم القراءة والكتابة وعلوم الدين في الجوامع والمدارس الدينية..

ترك مسقط رأسه عام 1920 إلى ديار بكر باحثاً عن المعيشة والعلم، وهناك أتم دراسته وأصبح (مُلا) ومن ثم لقب بـ(سـيدا) نتيجة دراسته الدينية، وذلك في عام 1928، ولكن سرعان ما أدرك خداع بعض من يتسترون بالدين وكيفية تعاملهم مع الإمبراطورية العثمانية البشعة، فرمى العمامة وتمرد على الأفكار الدينية الرجعية وعلى أفعال العثمانيين وبدأ كتابة القصائد بهذا الشأن، وغادر إلى مدينة عامودا في الجزيرة السورية، المدينة التي تحضن المفكرين والأدباء، وهناك أسس (نادي الشباب الكردي) في ظل الاستعمار الفرنسي، ولكن لم ترق أفكاره للفرنسيين فأغلقوا النادي، ليؤسس بعدها جمعية (خويبون) وأيضاً فشل بذلك نتيجة محاربة الاحتلال الفرنسي، هنا كان قد كتب جكر خوين عشرات القصائد يدعو فيها إلى محاربة الإقطاع وكذلك دعا الشباب والشابات إلى التعلم والفكر النيّر ودافع عن العمال والفلاحين وسائر الفقراء والمظلومين، وفي عام 1959 غادر إلى بغداد وأصبح مدرساً للغة الكردية في جامعتها حيث مكث فيها مدة ثلاث سنوات ليعود إلى عامودا مرة أخرى

كتب جكر خوين عشرات القصائد يدعو فيها إلى محاربة الإقطاع

من أنا
سكن جكر خوين العاصمة اللبنانية (بيروت) اعتباراً من عام 1969 إلى عام 1975 ونشر ديوانه الثالث kime ez (من أنا) هناك، وبعدها سافر إلى أوربا (السويد) وبقي هناك لغاية وفاته 22 تشرين الأول 1982 ونقل جثمانه إلى القامشلي عبر مطار دمشق ودفن في منزله في موكب مهيب حيث عطلت المدارس والمؤسسات وخرجت القامشلي عن بكرة أبيها لاستقبال جثمان الشاعر الكبير مع إلقاء قصائده بصوته عبر مكبرات الصوت.

مجيد الشعوب
ترك جكر خوين أكثر من 37 مؤلفاً، منها 8 دواوين شعرية، كما لعبت كتاباته دوراً كبيراً في النهضة الشعبية ضد الإقطاعيين وأذيالهم، وجسدت العديد منها معاناة المرأة السورية بشكلٍ عام والكردية بشكل خاصٍ والمطالبة بحقوقها لتأخذ دورها في المجتمع، ودعاها إلى الدراسة، ووقف ضد التقاليد البشعة التي كانت تقف ضد مسيرة المرأة، كحقها في أن تدخل المدارس ومساواتها بالرجل والوقوف ضد المهر.

ترك جكر خوين أكثر من 37 مؤلفاً منها 8 دواوين شعرية

لم يقف عند هذا الحد فحسب، ففي ذروة الأفكار التقدمية ونضالات الشعوب ضد الاستعمار، كتب جكر خوين عن نضال الشعب الفيتنامي ضد الاستعمار الفرنسي والناتو فنسج قصائد عن هوشي مينه (قائد الثورة الفيتنامية) والمعركة الشهيرة ديان بيان فو، كما كتب قصائد تمجد نضال الشعب الفلسطيني والكثير من الشخصيات النهضوية في العالم، إضافة إلى معاناة وطنه وشعبه، ولم تخلُ قصائده من الحب والعشق حيث ألف عشرات القصائد الوجدانية والعاطفية التي يصف فيها الحبيبة بأبهى الكلمات.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار