تستحثُ الذاكرة… غابةٌ من المعاني والإشارات المُعلّقة في دمشق
تشرين- لبنى شاكر:
لا تُشبه الصور القديمة لدمشق شيئاً مما هي عليه اليوم، فلم يبقَ أيٌ من معالمها الشرقية الأنيقة، ولم تعد المدينة ذات العمارة الباذخة، والجماليات البسيطة التي تُساير طابعها التراثي، وما طرأ عليه من حداثةٍ عبر الزمن، للأسف انقلب ذلك كله إلى تشوهٍ مُرتفع المنسوب، تسهل رؤيته في مختلف أنحائها، ويرتبط جزءٌ واسعٌ منه بلوحاتها الطرقية ولافتات محلاتها، إذ تُطالعنا شوارع العاصمة بلوحات دلالةٍ ذات تناقضات بصرية، فيها من الفوضى ما يكفي للضياع قبالتها؛ أسهمٌ مُتداخلة ولغاتٌ مُختلفة، عدا عن غابةٍ من المعاني والإشارات المباشرة أو العكس، كأنها تحكي ما عايشته المدينة من تفاوت في الاهتمام بها خلال تاريخها، ففي مراتٍ قليلة كانت أولوية، لكن في أغلب الأوقات لم يُدرك العابثون فداحة إساءتهم لها حتى تراكمت بشكلٍ مؤلم.
تُطالعنا شوارع العاصمة بلوحات دلالةٍ ذات تناقضاتٍ بصريةٍ فيها من الفوضى ما يكفي للضياع قبالتها
مصدر تأويلات
عددٌ من الأمكنة، طرأت على ملامحها تعديلاتٌ كثيرةٌ منذ وُضعت على حائطٍ فيها لوحة دلالةٍ ما، لم يبق لها من أهمية سوى إنها كانت شاهدة على أحداث ماضية، منها لوحةٌ متوسطة الحجم تعلو مبنى “البرلمان العربي” في مقدمة الشارع المؤدي إلى منطقة التجهيز. المبنى الكبير مغلقٌ حالياً على ما يبدو، لذا تبدو اللوحة آخر معالمه الدالة عليه على الرغم من تساقط بعض حروفها، وفي السياق ذاته، أيٌ من لوحات الدلالة يمكن أن تكون مصدر تأويلاتٍ كثيرةٍ إذا ما رُصدت وحدها بدقة، إذ تستطيع أن تبني في مُخيلة مُتأملها قصصاً وحكايات كثيرة عبر كل ما فيها من أرقام وكتابات، وما كان حولها في أزمنةٍ مضت، وهي تمتلك رغم صغرها أو قدمها قدراتٍ سرديةٍ تستحث الذاكرة لاكتشاف دمشق، بَشَرها وحجرها.
البعض كانت لهم نظرة جمالية في اختيار “آرمات” محلاتهم فانتقوا مفرداتٍ سهلة، يُمكن حفظها سريعاً
اختيار “آرمات”
البعض كانت لهم نظرة جمالية في اختيار “آرمات” محلاتهم، فانتقوا مفردات سهلة، يمكن حفظها سريعاً، فضلوا كتابتها بأحرف ملونة وباللغتين العربية والإنكليزية، ولا سيما تلك المعنية بالأطفال والأزياء والماكياج، كأنها تُشبه البضاعة التي تُروج لها؛ مغرية ومسلية، وقادرة على انتشال مقتنيها من مشاعر الكآبة السائدة إلى سعادةٍ ولو مؤقتة، بينما كانت لآخرين نظرة أكثر عملية ووضوح تجاه منتجاتهم، منها ما كُتب على واجهة بناء كبير “نسر/ منتجة إطارات نسر ممتاز” إلى جانب لوغو ملصق لنسر، هكذا بلا إضافاتٍ فنيةٍ مُبالغٍ بها، وبمنتهى الجدية والتحديد. كذلك استفاد باعة في أحياء قديمة من أسماء عائلاتهم، فغدت ماركات معروفة في عدد من المهن والصناعات، يسهل تمييزها والترويج لها بمجرد استحضار الاسم/الماركة، إضافة إلى تجار استعاروا أسماء ماركات عالمية شهيرة أو تعاملوا معها، لهؤلاء أيضاً حصةٌ كبيرةٌ من الشهرة، تجعلهم مطلباً بالنسبة للمستهلكين.
استفاد باعةٌ في أحياء قديمة من أسماء عائلاتهم فغدت ماركاتٍ معروفة في عددٍ من المهن والصناعات
لفت الأنظار
تختلف آلية التعريف بالمكان بالنسبة للمسارح وصالات السينما، ففي مدخل سينما الفردوس تتوزع حوالي ثماني “آرمات”، تتضمن ملصقات وعبارات دعائية وعناوين لآخر أفلام الأكشن والإثارة، علماً أنها لم تعد كذلك من سنوات، في وقت تتابعت فيه أسماء أجنبية لعدد من المحال التجارية في فندق الفورسيزنز تناسب شكله العام الفاخر. بعده بأمتار قليلة تأتي ثانويتا دمشق القديمتان “جودة الهاشمي” و”ابن خلدون” مع لوحتين صغيرتين قياساً بضخامة المدرستين وعرقاتهما. وأينما ذهبنا تصادفنا “آرمات” لمختلف الاختصاصات، يُضاف إليها إعلانات الفعاليات السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، كذلك “بوسترات” ضخمة لمناسبات معينة، انتهت وظلت إعلاناتها معلّقة، وفي النتيجة تتزاحم اللوحات المتلاصقة كجزء من الوجه العام للمدينة، كأنها تخوض سباقاً للفت الأنظار، يمكن رؤيتها على امتداد شارع طويل، معلّقة على أعمدة الكهرباء وجدران الأبنية ومداخلها الرئيسية، وفي وقت سابق غصت الشوارع بإعلانات عشرات المرشحين لمجلس الشعب.
إظهار الإعلان
الفنان التشكيلي راتب مهرة تحدث عن ارتباط الإعلان بالحاجات الضرورية للمجتمعات، وتطوره المتزامن مع تطورها المرتبط بالتقدم العلمي والتكنولوجي بشكل واسع وكثيف، حتى أصبحت له مدارس واتجاهات مختلفة حسب المادة الإعلانية وضرورتها في الحياة اليومية عند الأفراد، وفي الآونة الأخيرة ارتبط بالجانب الاقتصادي والاستهلاكي الذي يدر ربحاً كبيراً على المؤسسات والشركات المنتجة، لذلك استخدم الفن بجميع أنواعه “البصرية، السمعية، الحسية، المعرفية” لخدمات التسوق وزيادة الاستهلاك، لاحقاً انتشرت ظاهرة الإعلانات الطرقية في كل مكان، مع تفاوت في كيفية العرض وطرح الموضوعات الإعلانية، والملاحظ برأي مهرة تميزها بالعشوائية وغير الانتقائية في أماكن محددة أبرزها الأسواق الشعبية والقرى والحارات، وكانت النتيجة تشوهاً في بنيتها التراثية، لكونها توضع من غير دراسة واعية، فالهم الوحيد عند المعلن إظهار إعلانه، ولا مراعاة للذائقة الفنية والمشهد الحضاري، بل لتسويق السلعة فقط.
فسيفساء بشعة
وذهب مهرة إلى أن القائمين على تتصميم الإعلانات يفتقرون في الغالب إلى حس فني ومعرفي لوضع التصميم المناسب، ويلجؤون إلى لوحات الفلكس المشغولة بالفوتوشوب أو المنسوخة من الإنترنت، بالتوازي مع تناقص أعداد الخطاطين، وهي مهنة تحتاج صبراً ومهارةً وحساً فنياً، أصبحت تتبع اليوم لشركات كبيرة، فصرنا نشاهد فسيفساء بشعة، غير قابلة للفهم وغير مسوغة فنياً. وهنا تمنى التشكيلي لو تتدخل الجهات المختصة فنياً وإدارياً “وزارة الإعلام، اتحاد الفنانين التشكيليين” لوضع قوانين وآليات تحد من الفوضى في رفع الإعلانات العشوائية مع توافر لجان فنية في كل منطقة تنظم وضع اللوحات و”الآرمات” والشاخصات، وفي المحصلة علينا أن نجد توليفة تشمل المنتَج والمصمم والمكان، لو أردنا تغيير الشكل القائم نحو ما هو أفضل بصرياً، مع التذكير بأن العمل الفني قابلٌ للنقد دوماً.