كلُّ حروب التحرير في التاريخ تحولت إلى ملاحم مكتوبة، ومن هذه الملاحم انبثقت الفنون ذات الهوية القومية والوطنية، وذابت أسماء أسهمت في صياغة هذه الملاحم، لتبدو كأنها روح الشعب التي لا تتجزأ ووصفت بأنها عربية، أو فارسية، أو هندية أو روسية، حتى أتى زمن الرواية وصار لمعارك التحرير أدباء يخلدون بطولات شعوبهم كما فعل “ليف تولستوي” في روايته “الحرب والسلام” وذكرُ الأمثلة هنا يطول ويطول…
الكاتب الحق، يدرك أنّ كل وسائل تمجيد حروب التحرير بكلفتها الباهظة، لا تضعها الذاكرة الشفوية في مكانتها العالية، وكذلك لا يفعل المتحف الذي يضم تماثيل الأبطال أو صورهم مع ملابسهم وأسلحتهم، ولا الأفلام السينمائية المكتوبة بحرفية، ولا الصحافة الورقية التي تفرد صفحات ليوميات متزامنة مع جيَشان الجبهات. ما يلزم حروب التحرير الكبرى هو الرواية العظيمة التي تكرسها، وتخلدها كاملةً بقلم واحدٍ من أبناء قومها!
نحن في زمن واحدة من هذه الحروب التحررية العظيمة التي تتميز بأنها تجري تحت كل الأبصار بأدق تفاصيلها بفعل هذا الزمن الذي لم ينتزع أبسط الناس من عزلته فحسب، بل ذهب إليه في أبعد الأكواخ والدساكر، وقرع بابه ووضع على عتبته أكثر مما كان يحمل البائع الجوال في كيسه وعلى دابته من أشياء لا يعرفها الشاري ولا تخطر بباله، فالكاميرات تصوّر بعد أن أصبحت خارج مؤسسات التلفزيون الرسمية المحكومة بالرقابة المهنية والتوجه الإيديولوجي، والخبر يأتي مكتوباً أو منطوقاً بأسرع من الصوت، وإذ تحرك العالم بشبيبته وعقلائه ليدقق بما يجري ويعيد صياغة ما نام عليه من أكاذيب ويواظب على الخروج في مسيرات احتجاجية، ويقف فنان في مهرجان عالمي ليندد بإجرام عدونا، وتتالى صور مهولة لتقويض البيوت فوق رؤوس أصحابها ثم ملاحقة الناجين وقتلهم على الطرقات ثم الانقضاض على المشافي بالنار والرصاص، ومنع سيارات الإسعاف من الوصول إلى الجرحى النازفين، والحؤول دون آليات الإطفاء والمحارق المتنقلة، وصرخات الأطفال الذين نجوا بالمصادفة يتلفتون حولهم، ومن قائل: من سيصحبني إلى صلاة الفجر يا أبي؟ ومن قائل: لماذا قتلتم أختي وهي الوحيدة الباقية لي؟ ومن قائلة: أين حقيبتي التي فيها أقلامي وكتبي؟
كلُّ هذا مرئيٌّ حتى جَرْح مقلة العين وشغاف القلب، لكنه سيُنسى ويغيب إذا لم تكتبه الرواية! وكل تفصيلٍ (كلمة تفصيل هنا جائرة وغير عادلة) هو رواية يستطيع الكاتب تخليدها في الزمن القادم، لأن انتضاء القلم واجبٌ لا جدل فيه كانتضاء المقاوم لسلاحه في ساح ملحمة التحرير!
نهلة سوسو
121 المشاركات