الاستغباء المتعمد الكامن خلف سؤال: لماذا تفشل أميركا في التوسط لوقف إطلاق النار في المنطقة؟
تشرين – د. رحيم هادي الشمخي:
أخيراً، قالتها «واشنطن بوست»: لا تصدقوا بايدن عندما يقول إنه يوبخ نتنياهو، بل هما متفقان على نحو استراتيجي. لا تصدقوا وسائل الإعلام الأميركية التي تصوّر سياسات إدارة بايدن تجاه الشرق الأوسط على أنها «حسنة النية، لكنها غير فعّالة».. وأن بايدن وفريقه يضغطون بشدة من أجل التوصل إلى حل يُنهي العنف، ولكنه لا يستطيع إقناع نتنياهو!!!
يوم الخميس الماضي، جمعت 45 دقيقة هاتفية بايدن ونتنياهو، بعد انقطاع بينهما دام شهرين تقريباً، لتنطلق بعدها وسائل الإعلام الغربية وغير الغربية (بما فيها العربية) لتعيد الأسطوانة ذاتها حول الخلافات والتوترات وكيف أن «بايدن منزعج من تجاهل نتنياهو نصائحه وتوصياته ورفضه العلني محاولات الحد من التوترات الإقليمية».. كل ذلك لا تصدقوه، تقول واشنطن بوست:
هناك توتر بلا شك بين بايدن ونتنياهو، ولأن المنطقة في حالة غليان فإن اعتقادنا يتجه مباشرة إلى أن التوتر يتعلق بالمنطقة، وأن أميركا غير موافقة على الحرب الدموية التي يشنها الكيان الإسرائيلي ضد قطاع غزة، ثم لبنان.
الثابت هنا أن حالة الغليان تزامنت مع سنة الانتخابات الرئاسية الأميركية، وتتسع بصورة كبيرة كلما اقترب السباق الرئاسي الأميركي من نهايته، لكن الخلاف ليس هنا، ولن يفاجئنا أن الخلاف يتركز على كيف أن الكيان (أي نتنياهو) يفضل دونالد ترامب على مرشحة بايدن والديمقراطيين كامالا هاريس، وبالتالي فإن اختيار التصعيد هو سياسة إسرائيلية محسوبة ومتعمدة، وترامب يُشجع نتنياهو على الوصول بالتصعيد إلى أقصاه، وهو ما يفعله حالياً تجاه إيران.
مع ذلك هذا لا يعني أن هناك خلافاً بين بايدن ونتنياهو، وحسب واشنطن بوست فإن سياسات نتنياهو، من نواحٍ عديدة، هي سياسات أميركا نفسها.
من الصعب تصديق مسألة أن أميركا لا تستطيع إقناع نتنياهو بالجنوح إلى التهدئة، أو أنها لا تملك تأثيراً على «حليف» يعتمد في وجوده على أميركا تمويلاً وتسليحاً وحماية دولية.
من الصعب تصديق أن أميركا التي تتصرف بعدوانية مطلقة «حروب وعقوبات» ضد من يخالفها، وضد القوى التي يتسع صعودها على الساحة الدولية.. من الصعب التصديق أنها تترك للكيان حرية مخالفتها «بل إهانتها» علناً دون أن تتخذ أي إجراء ولو بسيطاً «ولو توبيخاً وراء الكواليس»، إنها لا تفعل، كل ما تفعله هو إطلاق يد الكيان/ نتنياهو/ الإرهابية في المنطقة، لتنفيذ ما هو متفق عليه أساساً بين الجانبين وراء الأبواب المغلقة.
هنا، تظهر إيران في الواجهة، وبما يدفع نتنياهو لفضح أميركا «وما يسمى العالم الحر» أكثر عندما يقول إنه يحارب إيران نيابة عن العالم الحر «خلال لقائه مؤخراً وفد رؤساء المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية».
وعليه، لنستحضر ذلك السؤال المتداول على نطاق واسع ومفاده: لماذا تفشل أميركا في التوسط على اتفاق لوقف إطلاق النار في المنطقة؟
نرد الإجابة إلى «واشنطن بوست» نفسها، بما معناه أنها لا تفعل شيئاً بالأساس، وأن الفشل عملية مقصودة لها أهدافها وأبعادها، تماماً كم هو مخطط الكيان الإسرائيلي الذي يريد تعميم الخراب و«تكثير الأعداء من حوله» ليتسنى له ولأميركا إعادة رسم خريطة جديدة للمنطقة التي وصلت إلى نقطة مصيرية بالنسبة للنفوذ الأميركي فيها، وللكيان الإسرائيلي بطبيعة الحال.
وبزعم الخطر الذي يحيط بالكيان من كل جانب ستتمكن أميركا من جر المجتمع الدولي إلى دعم تشكيل هذه الخريطة بذريعة توفير الحماية للكيان بمواجهة «كثرة الأعداء» من حوله، وترى واشنطن أن المنطقة حالياً منقسمة بحدة، ومضطربة في مواقفها دون أن تستطيع تحديد اتجاه محدد، وربما لأول المرة هذا الانقسام الحاد لا يتشكل حول أميركا، وإنما الانقسام بين دول المنطقة ذاتها بمعزل عن أميركا، وهذا ما تجد فيه فرصة لإعادة الضبط واستعادة السيطرة، وهذا ليس بجديد أو بخافٍ على أحد، فنتنياهو أعلنه مرات عدة، خصوصاً بعد بدئه العدوان الجوي على لبنان، حيث أكد أن الفرصة مواتية تماماً لتغيير الخرائط الجيوسياسية، ولا بد من استغلالها.
من يُصدق أنه على مدى عام كامل «مضى» زرع خلاله المسؤولون الأميركيون المنطقة ذهاباً وإياباً في زيارات ما زالت مستمرة، بدأت مع بايدن الذي زار الكيان بعد فترة قصيرة من بدء العدوان على قطاع غزة، ليقول للإسرائيليين: «أنتم لستم وحدكم» وانتهاء بالزيارة الأخيرة، قبل أيام، لآموس هوكشتاين، كبير مستشاري بايدن، إلى لبنان.
من يصدق أن أميركا تسجل فشلاً على كل المستويات من وقف إطلاق النار، إلى اتفاق تبادل الرهائن والأسرى، وصولاً إلى العدوان على لبنان.. حتى أبسط الناس سيصل إلى نتيجة مفادها أن أميركا لا تفعل شيئاً ليتم تحديد ما إذا كانت دورها/ وساطتها، نجحت أم فشلت، لأن الأمر ببساطة هو أن ما يجري في المنطقة وما يفعله الكيان الإسرائيلي هو ما تريده تماماً.
وحتى لا نتهم بالمبالغة أو المغالطة، لنترك كل ما سبق جانباً ونأخذ مسألة واحدة فقط تتفرع في جملة أسئلة:
- كيف تستقيم دعوة أميركا إلى إنهاء الحرب في حين أنها ما زالت تزود الكيان بأطنان من الأسلحة «ومنها المحرمة دولياً» وتمده بمليارات الدولارات حتى لا ينهار اقتصادياً؟
- من الذي يمول الحرب الإسرائيلية ويمدها بكل أسباب الاستمرار، مهما بلغت من الفتك والقتل والتدمير؟
- من الذي يحمي مجرمي الحرب الإسرائيليين بكل ما يرتكبونه من جرائم ضد الإنسانية، في المحافل الدولية ويمنع إدانة ومحاسبة الكيان، ويسقط كل المشاريع التي تدعو إلى وقف الحرب؟
- من الذي يصرح ليل نهار بـ«بحق إسرائيل في القتل والتدمير» ويضعه في خانة «الدفاع عن النفس» ليمنحها كل مبررات تصعيد الحرب والعدوان؟
- من الذي يصرح ليل نهار بـ«حق» الكيان في مهاجمة إيران، و«حقه» في ممارسة الاغتيالات في كل مكان وضد من يريده في انتهاك صارخ لكل القواعد والقوانين الدولية؟
- من الذي يحشد ترسانة عسكرية هائلة في المنطقة ليحمي بها الكيان الإسرائيلي، ويهدد بضرب الجميع إذا ما اقتربوا منه؟
الجواب واحد وحيد: إنها أميركا.
ما سبق من أسئلة ليس مصدره السطحية في الدبلوماسية الأميركية كما يحلو للبعض تسميته، وليس تناقضاً مفهوماً كما يقول البعض الآخر، أميركا لا يمكن بالمطلق وصفها بالسطحية في سياساتها، ولا بالتناقض.
ما يفعله الكيان الإسرائيلي حالياً من توسيع للعدوان هو خط بياني عملي للدبلوماسية الأميركية، أي هو نتيجة لها، وليس له أي علاقة بذلك السؤال آنف الذكر حول «لماذا تفشل الدبلوماسية الأميركية في المنطقة؟» أي في منع الحرب وامتدادها.
بقي أن نقول: من يطرحون هذا السؤال، هم في أغلبهم لا يطرحونه بسذاجة، أو لمجرد التعبير عن استيائهم من الفشل الأميركي، بل هناك نوع من التعمد في طرحه بهدف ممارسة عملية استغباء علينا، والتعمية على الأهداف الحقيقة من وراء العدوان الإسرائيلي والمخططات المُبيتة من وراء توسيع رقعته.
أكاديمي وكاتب عراقي