تعويض الهزيمة بحرب إبادة
تشرين- ادريس هاني:
لا أستطيع أن أنظر إلى هذه الفرجة، ويا لها من فرجة تثير بعض الإشفاقات الشّفوية، فالأمر لم يعد يُطاق، ولا أستطيع أن أمضي في التحليل القائم على دوامة العَوْد الأبدي، لأنّ الحديث اليوم عن إثارة الضمير العالمي وغير العالمي، هي عبث قولي ليس إلّا، فلقد ماتت الضمائر واتسعت آفاق دكاكين السياسوية. إنّ الأمم تقع اليوم تحت نار الإبادة، لا شيء مهماًّ غير أنّنا دخلنا عصراً انهارت فيه كل أساطير القانون الدولي والأنسنة وعناوين التنوير. الحرب إذاً قامت، فلا توقفها إلّا الحرب، وحسابات الربح والخسارة هنا لها خبراء الحسابات لا خبراء بخّ السمّ ونفث الكيد. لا يمكن لاحتلال مهما تفرعن أن يحقق انتصاراً على شعوب هي اليوم تتمسّح فوق دمائها لتزداد انتفاضاً.
اليوم يواصل الاحتلال عربدته في لبنان، الضرب عشوائي يستهدف المدنيين، فالصواريخ التي تدكّ معاقل جيش الاحتلال لا توجد مخازنها في المناطق المدنية، ولا شيء يبرر قتل المدنيين، غير أنّ تفاهة الإعلام الشّامت في المجازر التي يقودها النتن، تسعى لإظهار الاحتلال بطلاً وهم يرددون تصريحاته الحربية كما لو كانت حقيقة. أمام هذا المشهد يفرض تاريخ التضحية نفسه. فالمقاومة إن هي تريّثت قيل إنها باعت غزّة، وحين قصفت قيل هي مخاطرة. الاحتلال يخوض حرباً ضارية وأيضاً جبانة على المدنيين للضغط لا للتفكيك، لأن تفكيك المقاومة هو جزء من خرائف مجرم حرب يقلب الحقائق ويعلن الرغبة في إيقاف الإسناد كشرط لوقف افتراس المدنيين.
سمعت أحدهم ينتقد أداء المقاومة في عزّ عدوان الاحتلال على المدنيين، وبما أنه يعرف أنّ تصفية الحساب مع مقاومة خرجت من رحم شعبها، يحاول المغالطة في الكلام، فيقول: نحن في وضع لا أحد معنا، العدو أمامنا والبحر وراءنا، فوجب علينا التهدئة وما مفاده الاستسلام. وهذه العبارة المقطوعة من رقبتها، لا تؤسس للاستسلام، بل جاءت تاريخياً في سياق التحدي والمواجهة، وبأن لا مجال للتراجع أمام العدو. إنّهم يكيدون في التحليل، ويجدون الماكينة الإعلامية طوع نباحهم.
الاحتلال يمارس تعويضاً جباناً بواسطة التقنية ويلوح بالتدخل الذي يعجز عنه لأنّ المقاومة تنتظر تلك اللحظة من الاشتباك. المعركة سيبرانية وتقنية، فلا مجال للحديث عن بطولات، لأنّ الاحتلال سيصل إلى الباب المسدود، لأنّه عند كل خطأ، يؤكد أنّه تحوّل إلى شرّ مطلق. إنّ درجة الشّر تتجلّى في الشماتة، حين تنشط وسائل الإعلام المناهضة للإسناد في اتجاه تحريف الحقيقة وتقديم دروس وقحة لمن هم في الميدان.
يسعى الاحتلال وأبواقه لتعبئة ذهنية الهزيمة وترويع من لا عهد لهم بالحرب، بأنّ ما يفعله مجرم حرب سيحسم المعركة. بينما المعركة الآن بدأت، وبأنّه يبحث عن إنجازات إعلامية. الغرب الرسمي الذي يقف إلى جانب النتن سيدفع ثمناً باهظاً من روح القوانين التي تنكّر لها. لقد انتهى زمن الدعاية الغربية، إنّه عصر الهمجية والجبن، عصر أولاد الكلب.
لا يوجد إلّا النّفاق المزركش، شيء ينتظره خصوم لبنان منذ فترة، وهو قصم ظهر المقاومة. ومثل هذا قيل حتى في حرب تموز، استعجلوا الاستنتاج الكيدي، قبل أن تدركهم انتصارات القوم. إنها معركة مفتوحة على الاحتمالات، ولكن الثابت فيها هو الصمود، وهو صمود مكلل بتاريخ من الانتصارات، بتطور على مستوى الردع، يكفي أن الاحتلال عاجز عن دخول المعركة البرية.
أثبت الاحتلال أنّه مستعد لاستعمال المُحَرَّم من الأسلحة في الحرب القذرة على النّاس. إنّ الاحتلال جبان، وهو سيواصل الفتك بالمدنيين وليس إلّا المدنيين. إنّه يقذف بدعاية مغالطة تظهر انتصارات وهمية مبهرة. هذا بينما يخفي خدوشه التي تورّمت وهي تذهب به ناحية التّفكك. الإسقاط هنا واضح، أي الشعور بقرب التفكك الطبيعي لكيان يخشى من الحرب ومن الهدنة، لأنه بلغ مستوى من الرّعونة والجريمة لا أُفق له سوى التفكك التّاريخي. هل يا ترى ما زال يهذي وهو يواصل جريمة الإبادة التي ينتقل بها بين الأقاليم؟
إنّ ما ستسفر عنه الأيام القليلة سيكون قاطعاً للسان الدعاية، سيشلّ الاحتلال وسيسكن فترة طويلة تحت الأرض، قبل أن يسلم مفاتيح الأرض السليبة لأهلها. يضرب الاحتلال ألف حساب للمقاومة التي فرضت عليه إخلاء الشمال بينما يطالبها بالعودة إلى ما وراء الليطاني، يفرض شروطه وهو في عزّ الهزيمة التي يخفيها بقتل المدنيين، ويحاول الهروب إلى الأمام لكيلا يظهر عجزه في غزّة، حتى لا تظهر هزيمته ويعتبر وقف الحرب نتيجة صفقة وتدخل لمنع الحرب الشاملة. حرب الجبان واضحة في خلط الأوراق، ومن رأى فيها انتصاراً فهو لا عهد له بفن الحرب.