إذاً.. هل نتشاءم؟!

سمة الألفية الثالثة، وقد قاربت منتصف عقدها الثالث، أنها من المفكرين حتى لا نقول الفلاسفة الذين اضمحلوا منذ زمن بعيد، حيث يبدو المفكرون، وقد تخلوا عن أدوارهم السابقة كمتنبئين، ومنورين، وهنا كان “الخطر” إذ بقدر ما تخشى مجتمعاتنا الصمت، نطالب بسلسلة غير منقطعة من الضجيج.. إذاً هل لنا أن نتشاءم؟

في القرن العشرين كان ثمة هرج هائل من الأفكار والتيارات الفكرية والنظريات الأدبية، ومع بداية القرن الحادي والعشرين، يلتمع غياب كل ذلك، ورغم وجود الكثير من الكتاب والمفكرين، لكن لا يمكن تصنيفهم ضمن تيارات محددة.. ثمة حالة حداثية اليوم تفرض نفسها بطريقة مغايرة.. حداثة جديدة أقرب لأن تكون “تدميرية”، لكن هل جاء ذلك ترميماً للسابقة، أم حداثة ثانية؟!

كل الدلائل تشير إلى نوع من الطفرة الشعرية الجديدة، ومع ذلك هذا النتاج الروائي وبالتقنية الجديدة على الصعد كلها، هو نتاج معزول عن مخاوفنا ومشاغلنا الإنسانية العميقة، والنقاد اليوم يسبرون مدفن الرواية، ولكن لا يتورعون عن فتح التابوت، ومشاهدة الجثمان.

في الزمن السابق كان الكلام ينبثق من المؤلف الذي يُعلن الأسطورة، لاسيما في زمن الرومانتيكية.. في حداثة اليوم الكلام يُعود للكاتب كصدى سحيق لاستقلاليته.. مع الكلام الشعري، يُقال ما تعجز عنه الخطابات المنهجية، يُكشف عن أعماق الفكر، ويقول المحرم بمستوى آخر، لكن بجمالية ما، وكل كاتب هنا هو “خائن” – يؤكد كريستان بيتر- ذلك لأنه كاتب حقيقي، لا يقحم الفوضى في المعاني المكرسة، فالكاتب لا يعتنق، وبينه وبين أفكار الآخرين مسافة، يقدم نقداً مستمراً لكلِّ الحتميات، ولديه رغبة للتنقيب في الحقائق المطلقة، ويطبع على كلِّ الأجسام قبلاته المسمومة بفيروسات حميمية..!

بما يشبه التمني، يقول كريستيان بيتر: كنت أود أن أكون من كتّاب القرن التاسع عشر، لأقول مع كتابه الكبار كبلزاك وغيره: إن للإنسان غاية، يذهب باتجاه أرضٍ موعودة، بروياتٍ مثقلة بالتعليم والمعارف، ولكن مع بداية القرن الحادي والعشرين، يعتبر الكتّاب أن الأرض الموعودة لم تعد أمامنا، فانكفؤوا على أنفسهم.

أصبحت الرواية على هامش التاريخ والكاتب لا يهتم إلا بنفسه، يكرّس وقته في تفتيت النص، ويزيد في سواد الصورة أيضاً، وثمة أكوام هائلة من نتاجات الكتب تُرمى- على ما يرى عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة آفينيون الفرنسية كريستيان بيتر- ذلك أن الكلام الشعري هو أداة غير مفيدة مباشرة، بقدر ما هي مفيدة في كلِّ شيء، والكلام الأدبي على العكس من كلِّ الخطابات، ليس له وظيفة محددة اليوم، تقيده، ويمكن أن تحاكي أية وظيفة أخرى في الآن ذاته.. والسؤال هل غياب “الوظيفة” فرض الحديث عن موت الرواية والخيال.. خارج نطاق بعض الأوساط النخبوية لم يعد يُسمح للكتّاب تقديم آرائهم، وكان أن اختفى المفكرون كما كانوا في نهاية القرن التاسع عشر، وبدأ الكتاب بالتراجع.. إذاً: على عاتق الشعراء وحدهم بقي حمل حلم الفكر المشوب بالعاطفة لإنقاذ هذا العالم من قبحه وخرابه!!

هامش:

أنظرُ

في عينيكِ

أتأملُّ نفسي زيتونةً تتجذرُ فيكِ

غصنُ صفصافةٍ

يتدلى

في وجنتيكِ المائتين..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار