(جاك لاكان) وجنون العظمة..
تشرين- وصال سلّوم:
(جاك لاكان) المفكر والطبيب النفسي الفرنسي الذي ترك عظيم الأثر على الساحة الفكرية في القرن الماضي، ومات وهو صاحب الصيت الأكبر بأنه المغرور والمتعالي، صيت لازمه بكل مشوار حياته وتغيراته العلمية الظرفية وعلاقاته الاجتماعية عموماً.. لدرجة أن صحيفة (المجتمع الجديد) رثته يوم وفاته بالريمادونا يختال زهواً في معطفه المصنوع من “الاستراكان” الرمادي..
و(جاك لاكان) عالم التحليل النفسي ومؤسس مدرسة باريس الفرويدية استثمر منذ ثمانينيات القرن الماضي الإعلام خير استثمار حتى في إعلانه خبر حل مؤسسته، حيث نشرت صحيفة (اللموند) الفرنسية في عددها الصادر بتاريخ ٩ يناير ١٩٨٠ خطاباً من (جاك لاكان).. يعلن فيه أنه أبلغ أعضاء مدرسته بأن المدرسة تعاني من بعض المشاكل الحادة والمزمنة وأنّ حل هذه المشاكل لن يتم إلّا بحل المدرسة والجمعية ذاتها!! وأنه يتعين على الذين يريدون استمرار الارتباط به أن يقدموا طلباً بذلك في غضون عشرة أيام من تاريخ النشر.
وبتلك الكلمات يكون الإعلان انتهى، إلّا أنه فتح أبواباً من التحليلات والمناقشات الحادة التي أصابت أوساط المثقفين والمشتغلين بالتحليل النفسي والفكري في فرنسا، والظريف بالأمر أن إعلاناً كهذا وضع (جاك لاكان) بخانة السخرية والتهكم بعد اتهامه بجنون العظمة وحب الظهور والنرجسية، اتهام ليس بالجديد وخاصة أن رسالة الدكتوراه كانت عن جنون العظمة والبارانويا.
وفي لقاء تلفزيوني معه عام ١٩٧٤ بدأ كلامه بقوله إن معظم المشاهدين أغبياء بغير شك، وإنه من الخطأ أن يحاول تقريب الأمور إلى أفهامهم.
فهل كان حقاً مصاباً بالغرور لهذا الحد أم إن الأسى كان المسيطر الرئيس عليه وحزنه حقيقي لحل المدرسة مع التأكيد بأن سنوات (جاك لاكان) الأخيرة كان يميل فيها للانزواء والوحدة، وكان يترك أمور المدرسة لتلاميذه وأتباعه، وظن المقربون منه أنه كان مريضاً وعلى وشك الموت، حتى إنه لم يعد يقيم الندوات التي كان يعقدها مرتين في كل شهر، والتي كانت في الستينيات والسبعينيات أحد المعالم الرئيسة في الحياة الفكرية آنذاك حيث كانت تكمن أهميتها من المشاركة الحوارية لكل من ميشيل فوكو وكلارا مالرو وجيل ديلوز وفيلكس جاتاري وفيليب سولرز وجان بيير فاي ولوي التوستر وكلود ليفي ستروس زعيم المدرسة البنائية الفرنسية.
لذلك كانت الصدمة، يوم وفاته في مثل هذه الأيام من عام ١٩٨٠ وهو في الثمانين من عمره، توفى ويقال إن الكثير من أبحاثه وكتاباته وآرائه لم تنشر بعد.
وفاته تركت عظيم الأثر في نفوس تلاميذه والمتأثرين بآرائه، وهو المعلم الذي استطاع أن يخرج في تفكيره من عبودية القولبة، إلّا أنها أيضاً فتحت باب الاختلاف بالآراء، فمن كان يعتبر (جاك لاكان) أحد كبار المفكرين البنائين في فرنسا وأحد أعمدة التحليل النفسي البنائي الذي عمل على تجديد نظرية فرويد في التحليل النفسي إلى مجالات جديدة لم تخطر على بال فرويد نفسه، وكان هناك من يجد في تفكيره وطروحاته نوعاً من الأصالة والعمق، وهناك من يرى “جاك لاكان” مجرد مهرج يتلاعب بالألفاظ والكلمات ليخدع قرَّاءه عن طريق استخدام الجمل المبهمة والغامضة اعتقاداً منه بأن الغموض والتعقيد يرفعان مكانة المفكر بين القرّاء الذين لا يكادون يفهمون شيئاً.
وطبعًا هذه الصبغة التعقيدية كانت تتميز بها كتابات البنائيين الفرنسيين عموماً مبررين تعقيدهم بالضروري وبأنه واجب لإظهار مدى تعقيد التجربة الإنسانية، و(لاكان) استطاع التفوق على البنائيين بالتعقيد وهو يعترف بذلك ويقول بكل صراحة: “فهم تفكيره يحتاج إلى سبع سنوات”.. و ما يبرهن ذلك أنّ جامعة (فانسن) قد خصصت مقرراً دراسياً كاملاً لدراسة وفهم صفحة واحدة من كتابات لاكان.
(لاكان) الطبيب الأرستقراطي الذي درس الطب ثم العلاج النفسي وكانت رسالته للدكتوراه عن البارانويا عام ١٩٣٢، وعام ١٩٣٤ انضم إلى الجمعية الباريسية للتحليل النفسي وارتاد فيما بعد الأوساط السيريالية ونشر العديد من الأبحاث الفرويدية وقصائد في بعض المجلات السريالية.
وما بعد الحرب العالمية..تمزقت أوصال الجمعية الباريسية للتحليل النفسي وكان لـ(لاكان) الأثر الكبير الذي حاول فيه جمع ما أمكن من التوافقات كي لا تتأثر الجمعية إلّا أن الخلاف كان أكبر وأشمل ما أدى إلى انقسامها، وقام فيها لاكان بتأسيس الجمعية الفرنسية للتحليل النفسي التي تعبّر عن نظرته الخاصة إلى التحليل النفسي ووظيفته إلّا أنّ صراعاً شديداً قام فيها حول طريقة تدريس التحليل النفسي ذاته، انتهى يومها بحل الجمعية وتأسيس مدرسة باريس الفرويدية وهي جماعة تهدف إلى تأكيد أهمية البحث عن المعرفة ومع ذلك ورغم الجهود الكثيرة التي بذلت في الجمعية إلّا أنه تمّ حلها عام ١٩٨٠. . لدرجة قال فيها تلاميذ لاكان والمهتمون بالدراسات اللاكانية، نسبة إلى لاكان، إن أفضل ما يميز لاكان هو أنه غير لاكاني فقد كان يهدم بيديه ما سبق له أن بناه وشيده..