«ملف تشرين».. بوابة مشرعة على مصراعيها لـ “الفساد المقونن” ..القانون /51/ دوامة ضياع مقدرات الدولة و إثراء مريب لمن تحالفهم الحظوظ

تشرين – مها سلطان:
.. ويستمر القانون /51/ في دائرة الاتهام، ولكن؟
قبل العرض، ولتأكيد ما ينطوي عليه هذا القانون من أهمية قصوى، لا بد من إيراد ما يلي: يشكل القانون رقم /51/ وهو نظام العقود الموحد لعام 2004 «يشكل 95% من تنفيذ الموازنة العامة في الدولة بشقيها الجاري والاستثماري، فتقديم خدمة أو عمليات ربح من خلال مؤسسات تنفذ – إما عن طريق المناقصة أو طلب العروض أو العقد بالتراضي- كلها عبارة عن اعتمادات لمشروعات في الموازنة العامة وهذه الاعتمادات لا يتم صرفها بأموال من الخزينة مباشرة، بل هناك نظام عقود هو الأداة الرئيسية لذلك».
ما سبق ومن دون حاجة لكثير من التوضيح والشرح، لا بد أن يدفع مباشرة باتجاه نوع من الريبة والشك، فالقانون هو من الضخامة والشمولية والتعقيد بحيث إنه لا بد أن تعتري بنيانه ثغرات أو فجوات، تفتح شهية الفاسدين والمفسدين على أقصاها.. وهو كغيره من القوانين مهما اجتهد الواضعون في سعيهم للوصول إلى الأفضل في نصوص الحكم والتشريع يبقى للتطبيق والتنفيذ قول كلمتهما الفصل.. وبين النص والتطبيق يترصد النافذون والمتنفذون والمتنفّعون.
وعلى مبدأ «البيضة والدجاجة» لناحية الإثبات وليس لناحية الأسبقية، وعندما يكون القانون /51/ متهم بأنه أكبر بوابة للفساد (والهدر) فلا بد أن يختلف القانونيون والاقتصاديون في مسألة إثبات تهمة الفساد وعلى من تقع، هل هي على العامل القانوني (مواد القانون)، أم على العامل البشري (الجهات المنفذة)؟.. وبين الجانبين يضيع المال العام، لتخسر الدولة تراكمياً، عمودياً وأفقياً. وإذا ما قسنا عمر القانون الذي صدر في عام 2004 (لتدارك العيوب التي كانت تكتنف المنظومة القانونية السابقة الناظمة لعقود الجهات العامة)، يمكننا بالعموم تقدير حجم الخسائر ولا بد أن تكون قياسية، وإن لم تكن هناك أرقام تدعم هذا التقدير، حتى إنه بالإمكان اعتبار غياب الأرقام العامل الأهم والأخطر في مسألة ما يُلقى على القانون /51/ وعلى الجهات المنفذة من اتهامات.
هذه الاتهامات كانت قبل الحرب على سورية، واستمرت بصورة أكبر وأخطر بعد الحرب، ولنا أن نتخيل حجم الأرقام إذا ما قسناها بالمسائل الاقتصادية الأخرى، وعلى رأسها سعر الصرف، على سبيل المثال لا الحصر.

يستمر الخلاف والاختلاف في إثبات تهمة الفساد هل هي على العامل القانوني أم على العامل البشري؟.. وبين الجانبين يضيع المال العام لتخسر الدولة تراكمياً عمودياً وأفقياً

مسعى للتعديل
في عام 2015 كان هناك مسعى أعلنت عنه وزارة المالية لتعديل بعض المواد لسد «النقص الحاصل في القانون /51/ مع توضيح بعض الأحكام الواردة فيه» وكي «يتلاءم مع متطلبات الجهات العامة»، ولمراعاة الاختلاف في الخصوصيات بين القطاعين العام والخاص من جهة، وبين الجهات ذات الطابع الإداري والأخرى ذات الطابع الاقتصادي.. فيما للجهات الإنشائية حديث أوسع وأخطر باعتبارها «منطقة» الفساد الأساس والأكبر، ففيها أدسم العقود، ونتيجة لخصوصية هذه العقود في النص والتفسير والتنفيذ فهي تمنح الفاسدين هامشاً كبيراً من حرية الاستغلال والتربح إلى أقصى الحدود.. ثم لم يُعرف مصير هذا المسعى.


أرقام فساد مهولة بـ«المليارات» يتم الحديث عنها فيما يخص القانون /51/ وما زالت الاتهامات تدور، لتدخل ضمنها الأجهزة الرقابية المسؤولة عن عدم المتابعة والمحاسبة، ويبدو أن المال الفاسد هو من الحجم الذي يكفي لسد الأفواه وإسكات المعترضين، ولجم الساعين في طريق الكشف والتحقيق، الأمر الذي جعل كرة المليارات (وأثرياء الحرب) تكبر وتسيطر.
القانونيون أنفسهم يتحدثون ويشرحون كيف فتح القانون /51/ أوسع أبواب التواطؤ بين القطاعين العام والخاص، حيث الأول بيده عقدة العقود والتعاقد والثاني بيده عقدة الاستحواذ والتنفيذ (والدفع/الصرف).. ومع اتساع دور القطاع الخاص في السنوات الأخيرة، نستطيع تخيل ما بات عليه حجم الفساد والهدر، وبما جعل الأصوات أعلى باتجاه الحاجة إلى تعديلات في القانون أكثر صرامة وصوناً للمال العام.

القانونيون أنفسهم يتحدثون ويشرحون كيف فتح القانون /51/ أوسع أبواب التواطؤ بين القطاعين العام والخاص.. الأول بيده عقدة العقود والتعاقد والثاني بيده عقدة الاستحواذ والتنفيذ

ولكن هل هذا هو الحل؟
وعلى فرض أن ذلك قد تم، ثم استمرت الحال، ما العمل؟
من يضمن ألا تكون في التعديلات الجديدة (على صرامتها) ثغرات أيضاً، تغطي قانونياً، بالطريقة نفسها على الفساد، جهات وأفراداً؟
وحتى إذا ما استبدلنا هذا القانون بآخر، أو ابتعدنا عن شمولية القانون/51/ وعدنا إلى مبدأ التجزيء في التعاقد الذي كان يحكم منظومة العقود قبل عام 2004 (كان المرسوم التشريعي 228 لعام 1969 يحكم عقود جهات القطاع العام الإداري، في حين كان المرسوم 195/ت لعام 1974 يحكم عقود جهات القطاع العام الاقتصادي، أما المرسوم 339 لعام 1982 فقد كان يحكم عقود شركات الإنشاءات العامة).
.. حتى إذا تم فعل ذلك، من يضمن ألا تكون هناك الثغرات ذاتها وبوابات الفساد نفسها؟
هل الفساد في النص أم في التطبيق، في القانون أم في القائمين عليه، أم في غياب عملية الحساب والعقاب، وإذا ما وضعنا أعظم القوانين، كاملة مكتملة، فمن يضمن أن يكون المنفذون بالمستوى نفسه؟
هي عملية متكاملة، ولكن كيف نحققها؟

القوانين وحرّاسها
عندما بنت الصين أعظم أسوارها، في أعظم خطة دفاعية خلدها التاريخ (منذ 475-221 قبل الميلاد) لتكون شاهداً حيّاً على عظمة القوانين التي لا تشوبها شائبة، خالية من أي ثغرات أو فجوات، كانت هناك قناعة وثقة مطلقة بأن السور الذي امتد عشرة آلاف ميل مُطوِقاً الدولة، ليس فيه حجر واحد في غير محله، كان عصيّاً بصورة مطلقة على الاختراق كبناء وجغرافيا.. ومع ذلك استطاع العدو اختراقه، لتستمر الهجمات التي كانت تتعرض لها البلاد من شعوب ومناطق مجاورة، ولكن كيف؟
ببساطة، تم شراء الحراس.. كان الحراس هم بوابة التهديد الأكبر.. كانوا هم الثغرات والفجوات التي نفذ منها العدو، وبذلك فإن سور الصين العظيم بقدر ما خلده التاريخ كأعظم خطة دفاعية، بقدر ما خلده أيضاً كأكبر عملية فساد وتهديد يمكن أن تسقط أي دولة مهما بلغت قوتها وسطوتها.
ما نريده قوله هنا إن أعظم القوانين تكون بلا فائدة، وأحياناً وبالاً على الدولة إذا لم يتوفر لها حراس عظماء (وبكل ما للكلمة من معنى) وحتى عندما تعتري القوانين ثغرات وفجوات (بقصد أو من دونه) فإن هؤلاء الحراس سيكونون الحماة الحقيقيين بمواجهة المستغلين والمفسدين ومن يسعى إلى شق طرق التواطؤ بهدف الإثراء على حساب المصلحة العامة والمال العام.
دعونا نشبه – مجازاً – سور الصين بالقانون /51/ والتشبيه لناحية الضخامة والامتداد وما أنتجه ذلك من بوابات فساد وتهديد، وبقدر طول سور الصين الذي أنتج بامتداده آلاف (الحراس) الفاسدين على عدد بوابات وأبراج السور، بقدر ضخامة واتساع القانون /51/ الذي أنتج بدوره مئات بل آلاف (الحراس) الفاسدين، وبعضهم علنيين بصورة فاضحة، ولا حسيب ولا رقيب.

عندما بنت الصين أعظم أسوارها لتكون عصية على اختراق الغزاة لم ينفعها ذلك.. كان الحراس هم بوابة التهديد الأكبر التي نفذ منها العدو.. الأمر نفسه يقال عن القوانين و«حراسها»

هناك اتفاق على أن هذا القانون، بعقوده متعددة الميادين، في الداخل والخارج (إنشاءات، مشتريات، خدمات.. إلخ) أنتج شبكة فساد متكاملة، يندر أن تعثر على عقد أو لنقل أن يُمرر عقد نظيف مئة بالمئة، علماً أن ميادين العقود ليست جميعها على المستوى نفسه، فما توفره بعضها من تربح وثراء لا يوفره البعض الآخر.. وبالعموم لكل ميدان فاسدوه.
ويبقى الأسوأ في قانون العقود /51/ (كما في سور الصين) وفي كل قانون بالعموم، أن يكون (حاميها حراميها)، ساكتاً أو متواطئاً أو شريكاً لا فرق، فالنتيجة واحدة.
إذاً، هل يجب أن ينصب التركيز الأكبر على العامل البشري؟
أيضاً، هناك اتفاق عام بين القانونيين والاقتصاديين (والمراقبين) على هذه المسألة، بدءاً ممن يضع القوانين ويدبج موادها وفقراتها وصولاً إلى التنفيذ والقائمين عليه، مع التشديد على دور الرقابة وأجهزتها في كل مفاصل التنفيذ وصولاً إلى تحقيق مبدأ الحساب والعقاب، وأيضاً الثواب عندما يتم كشف مكامن الفساد وفضح الفاسدين.
ما العمل؟
ولكن ماذا عن مسألة الخروج من حالة “اللاضمير” فيما يخص العامل البشري، كيف نحصّن القوانين بضمائر حيّة (مع انتفاء العقوبات الرادعة أو بعبارة أدق تعذر تطبيقها لأسباب تكاد تكون معروفة للجميع)؟
ربما يكون الحل وفق (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) أو بمعنى أدق تنويع وتكثير الهيئات/اللجان الرقابية، أو الجهات ذات الصلة بكل عقد وعرض، وفي كل مراحله (مناقصات، استدراج أسعار، دراسات الجدوى.. إلخ).. تكفينا جهة واحدة (لا تضل) لتكون قوانينا بخير.

يُضاف إلى ذلك أهمية أن تكون هناك تفسيرات واضحة لا تحتمل اللبس (التعليمات التنفيذية) لمواد أي قانون، وقد تكون هناك حاجة لتأهيل وتدريب القائمين على التنفيذ، إذا لم تكف التفسيرات.. ولا تخرج عن دائرة ما سبق الرقابة الإعلامية.. ليكن الإعلام حاضراً في العناوين والتفاصيل، ليكون جهة كاشفة داعمة باتجاه تطبيق أمثل وفائدة أقصى.

أقرأ أيضاً:

«ملف تشرين».. المناقصات التقليدية تكبّل مبادرات العمل الحكومي.. قانون العقود السوري أمام “برزخ” التعديل نحو فضاء الحوكمة الرقمية

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار