رحلة عبر عوالم القهوة.. من البُنّ إلى السعادة!
تشرين- حنان علي:
لعلّ فناجين أربعاً متتالية قادرة على الارتعاش بأصابع الصباح المبكر، لكني لن أقبل أبداً بإدانة القهوة أو تجربتي الحسية الحقيقية التي تناغم إبانها أريج بُنّها المحمص مع التجدد المرافق لكل صباح، وعلى الرغم من كثرة عشاق القهوة حول العالم، لايزال البعض يقلل من شأنها مؤثراً ارتشاف الشاي أو ما تعرف بالمتة وهنا تبزغ سجالات ودية بين الحاضرين للتغزل كلٌّ بمشروبه المفضل مع إشراقات أيامنا الطويلة.
صوت المذاق
واستحضر هنا غزل محمود درويش:
“القهوة صوت المذاق، صوت الرائحة البني
القهوة تأمّلٌ وتغلغل في النفس وفي الذكريات ..
القهوة هي هذا الصمت الصباحي الباكر المتأني
القهوةُ أنثى وحيدة”.
على مرّ التاريخ، لم تكن القهوة مجرد مشروب، بل حافز للتفاعل الاجتماعي والتبادل الثقافي والتنمية الاقتصادية.. وتعكس رحلتها تغييرات مجتمعية وثقافية واسعة، في حكاية طويلة استهلها – كما يشاع – راعي غنم بأرض إثيوبيا في القرن التاسع الميلادي. لاحظ الرجل أن أغنامه تنشطت حال تناولها لعناقيد حمراء متدلية من شجيرة معينة، فسارع بالحبات إلى راهب دير قريته الذي اعتبرها “صنيع الشيطان”، ملقياً إياها للنيران، وحين عبقت الأجواء برائحة غنية زكية، لم يكن أمام الراهب سوى استعادة الحبات وصب الماء الساخن فوقها للحفاظ على رائحتها الفريدة..
تذوق الحاضرون المزيج، فشعروا بالنشاط والدفء، وهكذا انتشر المشروب المنشط بين الرهبان، لمساعدتهم على السهر لفترات أطول.
اليمن: مهد القهوة
الفضل في تقديم القهوة إلى العالم ينسب إلى اليمن، حيث يُعزا اكتشاف هذا المشروب المحبوب إلى عالم الدين والشيخ المتصوف اليمني علي بن عمر الشاذلي، واتفق العديد من المؤرخين على أن الشاذلي كان أول من اكتشف القهوة، رغم أن الترجمات السابقة لأعماله لم تذكر شيئاً عن هذا المشروب، لكن كتاب عبد الرحمن بن محمد العيدروس “إيناس الصفوة في أنفاس القهوة” يُعتبر نقطة محورية في تعميق معرفتنا بمساهمته في اكتشاف القهوة.
وفي القرن الخامس عشر زرعت حبات البن لأول مرة في اليمن، لتمسي مدينة (المخا) الساحلية مركزاً لتجارة البن، والمصدّر الرئيس لشبه الجزيرة العربية، وصولاً إلى الإمبراطورية العثمانية.
التجار اليمنيون جنباً إلى جنب مع الصوفيين لعبوا دوراً مهماً في انتشار القهوة في جميع أنحاء العالم عبر إنشاء مقاهٍ في مدن مكة، القاهرة، إسطنبول، ودمشق، والتي أصبحت مراكز اجتماعية للمحادثة والموسيقى والتبادل الفكري.
العيون الخضر
يقول نزار قباني:
اشْرَبي القَهْوَةَ يا سيّدتي..
فالجميلاتُ قضاءٌ وقَدَرْ..
والعيونُ الخُضْرُ والسُودُ..
قضاءٌ وقَدَرٌ..
طرقت القهوة أبواب أوروبا، مع افتتاح أول مقهى في البندقية عام 1645، لتكتسب القهوة شعبيةً كبيرة، دفعت إلى إنشاء المقاهي في المدن الكبرى مثل: لندن وباريس وفيينا، كمراكز للخطاب السياسي والاجتماعي.
ومع حلول (القرن الثامن عشر) بدأت القوى الاستعمارية الأوروبية بزراعة القهوة في مستعمراتها، و إنشاء مزارع البن في منطقة البحر الكاريبي وأمريكا الوسطى والجنوبية وجنوب شرق آسيا.. وفي القرون اللاحقة جلبت الثورة الصناعية تقدماً في إنتاج القهوة وتنوعت بعدها طرق التخمير، تلاه اختراع القهوة الفورية، ما جعل تحضير القهوة أكثر سهولةً بعدما بات استهلاكها طقساً يومياً للعديد من العمال، مثل الإسبريسو، الكابتشينو، والقهوة العربية..
“وقهوة كوكبها يزهرُ
يَسطَعُ مِنها المِسكُ والعَنبرُ
وردية يحثها شادننٌ
كأنّها مِنْ خَدهِ تعصرُ”
بابا بودان
في الهند يُعتبر بابا بودان شخصية محورية في تاريخ زراعة القهوة في الهند.. ووفقاً للأسطورة، يُنسب إليه دور كبير في إدخال حبوب القهوة إلى البلاد حيث جهد بزراعتها في تلال (شيكماغالور).. كما ساهم الفرنسيون في نشر زراعة القهوة في أمريكا الوسطى والجنوبية، إذ يُزعم أن (غابرييل دي كليو)، ضابط في البحرية الفرنسية، قام عام 1723بتهريب شتلة بن من حديقة باريس النباتية إلى جزيرة مارتينيك. وتعتبر هذه الشتلة أصل ملايين أشجار البن في المنطقة.
ويختلف إعداد القهوة في العديد من البلدان بما في ذلك كيفية تحميص القهوة والتوابل والنكهات المضافة وأبرزها الهيل والزعفران والقرنفل.
التنجيم بالقهوة
المعروف أيضاً باسم “فنجان القهوة” أو “قراءة القهوة”، فن قديم يعود تاريخه إلى قرون مضت، حيث تستخدم بقايا القهوة المتبقية في الفنجان لتفسير الرموز والتنبؤ بالمستقبل. يُعتبر هذا الفن جزءًا من التقاليد الثقافية في العديد من البلدان، خاصة في الشرق الأوسط وبلدان البحر الأبيض المتوسط. ولا تغيب عن ذهني الدهشة وضحكات الأمهات الصباحي أثناء قراءة الفنجان، ولا أدري كيف كنّ يرين الحبّ أوالمال، أو التحديات أوالتنبؤات أو إحدى الخيانات!
أرتشف بقايا قهوتي مع أبي نواس:
يا خاطبَ القهوة الصّهباء، يا مَهُرها بالرّطلِ
يأخذ منها مِلأَه ذهبا قصّرْتَ بالرّاح
فاحْذَرْ أن تُسمِّعها
فيحلِفَ الكرْمُ أن لا يحملَ العنبَ