“الشراع والعاصفة” كانت تعصف بي أيضاً و”حنا مينه” يشدني حيث تمضي “شكيبة”، ومن طبيعة الروايات أنها لا تُقرأ دفعةً واحدة، بل تُترك بينها فواصلُ زمنيّة بسبب مشاغل الحياة، ومن عجَبٍ أنني في فترات الانقطاع عن القراءة، كنتُ أشمُّ رائحة غابات الصّنوبر تعبق في الفضاء وتزداد كثافة كلما مرّت في منعطف خفيّ ظهر منه عِرْقُ نعناع أخضر بين خضار المنضدة، أو سقطت ورقة لبلاب وراء النافذة! وتبعتني فكرةُ أن لكل رواية رائحةً خاصة بها! رائحة غابات “البتولا” عند “أنطون تشيخوف”! كيف هذا؟ إنها أيضاً عند كبار الروائيين الروس أينما توجهت الأحداث، وكيفما كانت الشخصيات. في الخلفية التي قد تكون شاحبة وغير مقصودة، هناك غابات “البتولا” حول المدن وفي الطرقات التي تشقها السكك الحديدية وحول الأكواخ الخشبية النائية أو المنفردة وتحت الشبابيك التي يسهر خلفها المؤرَّقون! أما الرواية المصرية فكانت شجرة “الجميز” تملأ الفراغات المكانية في الأحداث، وهي غير اللبلاب الذي اختاره “محمد عبد الحليم عبد الله” في روايته الشهيرة وغير “الكافور” الذي نافس “الجميز” في حضوره ورائحته الحريفة، وبطيئاً انزلقت الذاكرة إلى رائحة أزهار الكرز التي تعبق بها الرواية اليابانية ومن عجب أنه لا ثلوج روسيا ولا ثلوج جبل “فوجي” الياباني حملت صقيعاً معها إلى أطراف القارئ أو أحاسيسه، بل من فعل ذلك هو الكاتب الأمريكي “جاك لندن” الذي خرج إلى الطبيعة القاسية بكل عناصرها وأحيائها وواجهها كأنه واحداً من مخلوقات القطب، حتى يكاد القارئُ يشعر أنه ذهب معه من دون معطف ومن دون شال صوفي، ومن دون جذوة نار تبعث فيه بعضَ دفء، لذلك توجّب عليه أن يستنشق نكهة الجليد، وأن يعرف بعمق، رائحة الماء المتجمّد، التي تضع المشاعر في فضاء قاسٍ يواجه أفعال الطبيعة كأنها قدر لا فكاك منه!
هل تولد الشجرة مع الكاتب كأنها جزء من كينونته القومية؟ يبدو أن هذا طيفٌ من أطياف الحقيقة! لقد ابتعد “جبران خليل جبران” وكل أدباء المهجر بحاراً وقارات عن موطنهم، إلّا أن رائحة الزنبق والخروب والورد سافرت معهم، وتفتحت في رواياتهم، حتى كدنا نضعها بجوار الأدب الأندلسي الذي يضوع بكل الأطياب، وإذا ما نُسبت رائحة الياسمين والورد الشامي إلينا، كشعب يعيش في مكان جغرافي متميز، هل سيقول النقاد الأجانب عنا إننا نسقِّي رواياتنا بعطرهما؟ ولمن نترك رائحة الغار والبطم والزيتون وشقائق النعمان والبرتقال والليمون والتفاح وتلك الغابات التي لم تحضر، في انطباعاتي، عند “حنا مينه” لأن وجهه كان إلى البحر…