“الحب الصوفي” والسباحة بين فيوضات الأكوان!
تشرين- جواد ديوب:
كُتب الكثير، وما زلنا نكتب، وسنكتب إلى أبد الآبدين عن الحب بكل تجلياته؛ الحب الأفلاطوني؛ الحب الأمومي، الحب الأخوي، الحب العذري، حب الأصدقاء، الحب الجنسي(الإيروس)، وبالتأكيد عن الحب الإلهي عند أهل التصوف ودرجاتهم فيه.
هل نكتب عن شيء ينقصنا؟ أم نحاول ذلك لأنه عصيّ على الفهم رغم أنه بسيط كالماء؟ بل إننا نكرر في مجالسنا وحواراتنا، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي ضرورة الحب والمحبة بين الناس، ورغم ذلك قليل من البشر استطاعوا أن يتغلبوا على أنفسهم، وأن يصلوا بها إلى مرتبة الحب الحقيقي!. لكن هل هناك شيء اسمه “الحب الحقيقي” ؟ أليس كلٌّ منّا يعد أن ما لديه هو “الحب الحقيقي” بالنسبة له؟.
عن الحب الحقيقي
ولعلّ خلْقَ العوالم كلها مبنيٌّ على الحب، فلولا الاتحاد حبّاً بين ذرتي الهيدروجين وذرة الأوكسجين لما وُجِد الماءُ، البحرُ، المحيط، الدّمُ الذي يجري في عروقنا. ولولا الحب بين الأرض والسماء لما وُجدت الخلائق، وقد يكون العصب الرئيس للأديان التوحيدية وغير التوحيدية هو الحب، أو بدقة، كما صوَّرتْه تلك الأديان لنا: صراعٌ بين الخير/الحب، والشرّ/الكره.. بين الحياة والموت.. بين الخلود والفناء، أفلا يُقال: الخير محبّة، والمعرفة محبّة، والحقّ محبّة؟!
لكن للمتصوفة في عوالم الحب والمحبّة رأيهم الخاص، وتفرّدهم في تصوّر الحقّ، والخلق، وهوية الذات الإلهية التي لا يمكن معرفتها باللغة أو بالإدراك العقلي، فبحسبهم “سُبحانَ مَنْ لم يجعل سبيلاً لمعرفته إلّا العجزَ عن معرفته”، لأنهم يقرّون بعد كل مجاهداتهم وإشراقاتهم ومكاشفاتهم “القلبيّة” بأن «العجزَ عن الإدراك إدراكٌ»، وأنه كلما أمعنّا في التعقّل؛ عجزنا عن إدراك الحقّ، أي عن إدراك الأسرار الإلهية وغوامضها التي لا تُكشَفُ إلّا بالوحي.
التصوف ذوقٌ وكشف!
الشيء المؤكد هو أننا لا يمكن أن نفصل التصوف عن الإسلام، إذ إنه نشأ في رحم بيئة إسلامية، ويقوم أساساً على تأويلٍ خاص للنص القرآني، تأويل يقوم على تفسير وشرح للآيات القرآنية بطريقة الرموز ومفاهيم الإشراق والنور الإلهي الذي يفيض من «الخالق» على النفوس البشرية، التي تزداد صفاءً ومحبّة وشوقاً، وتزداد بذلك «إدراكاً وتجليّاً وكشفاً» في مقامات المعرفة والمحبّة. وإذ أصِلُ إلى مفهوم المعرفة، فلا بدّ أن أستعيد وأستعير، بتصرّفٍ شديد، ما قدمه لنا المفكر علي حرب في كتابه «الحب والفناء» (دار المناهل/بيروت 1990)، فالمعرفة عند الصوفيين «لا تتمّ بالبحث والنظر، بل بالرياضة الروحية والمجاهدة. لا تقوم على ترتيب الأدلة، وإنتاج النتائج، بل هي ذوقٌ وكشفٌ، والمعرفة الذوقية أكثر وضوحاً وأشدّ يقيناً من المعرفة النظرية»، فالأخيرة «تُنتَجُ بالتصوّر والدليل، وبالتصوّر تُدرَكُ صورة الأشياء» فقط؛ بينما «المعرفة الذوقية هي إدراكٌ مباشرٌ للشيء وتحقّقٌ منه بالذات»، و«ما يُدرَكُ بالبرهان ليس سوى أسباب المحبة وشروطها أو لوازمها وآثارها، أما المحبة بالذات فلا تُبلَغُ بلفظٍ، ولا يكتنهها تصوّرٌ».
هذا الشرح الموجز والدقيق يوصلنا إلى ما كان يردّده الصوفيون على مدار تجاربهم ومواجدهم ودرجات سكْرهم بالعشق الإلهي فـ “النظرُ أعجزُ من أن يَعرِفَ الأحوال، فكيف بمعرفة المحبة التي هي أصل الأحوال وغايتُها” ، والنُطقُ قاصرٌ عن استيعاب تجربة الحب، رغم أن المتصوفة الكبار تركوا لنا فكراً وأدباً وشعراً إشراقياً روحياً راقياً، ومشحوناً بالانفعالات والدلالات اللغوية المتحركة والمتجددة واللا متناهية، فـ” كلما اتّسعت الرؤيا، ضاقت العبارة” بحسب قول محمد بن عبد الجبّار النفّري، أي إن اللغةَ ضيّقةٌ وعاجزةٌ عن أن تحمل ثقلَ المعاني القادمة من الغيب.
كلما اتسعت الرؤيا
وفي الحديث عن التصوف لا بد من الإشارة إلى أن الصوفية متعددة بتعدد الأديانِ المختلفةِ في المظاهر لكن الواحدة في الحقيقة والجوهر، لأنها كلُّها تسلك طريقاً إلى غاية واحدة هي الله (سبحانه)!.
وهذا ما يقوله الشيخ محي الدين بن عربي (1165-1240): «عقَدَ الخلائقُ في الإله عقائد/وأنا اعتقدتُ جميعَ ما عقدوه»، فالمهم في التصوف هو وحدانية الخالق رغم تعدد الخلق، ووحدة الدين رغم تعدد الشرائع، كما أوضح ذلك الدكتور سهيل عروسي في كتابه «التصوف بين الفقه والأيديولوجيا/إصدارات الهيئة العامة السورية للكتاب)
واللافت في دراسة عروسي هو بعض التفسيرات التي يوردها والقائلة إنّ التصوف هو فكرٌ ومنهجُ معارضةٍ للظلم والاستبداد بوسائل فكرية وطقوسِ ممارسةٍ «من داخل الإسلام وليس من خارجه»، وأنه دعوة للتأكيد على الضمير الفردي وحريته في البحث عن خلاص، للإنسان عموماً وللصوفي خصوصاً، خارجَ البنية الأيديولوجية والسيكولوجية والثقافية والأخلاقية المهيمنة، عبر تجربته الجوّانية/الذاتية.
التصوف الممسوخ عبر الفيسبوك!
الإرث الضخم من الكتابات الصوفية تحول إلى مجرّد نصوص مختصرة ومجتزأة على شكل مقولات نثرية موضوعة خارج سياق التجارب الصوفية العظيمة التي أنتجتها، أو التي قال خلالها الصوفيون الكبار تلك الشذرات، ولأنها اختُزِلتْ من قبل المريدين أنفسهم، ثم من المعجبين، وبعدها حوِّرت من قبل المشككين المبغضين للصوفية، وصلتنا اليوم تلك الإشارات والأشعار الصوفية على شكل “بوستات” فيسبوكيّة مرفقة بصور لا علاقة لها بالقول أو الإشارة، بل البعض يضعها مع حكم لفلاسفة آخرين لا علاقة لهم بالبعد الصوفيّ، ما يخلق تشويهاً للسياق التاريخي الذي قيلت فيه، وللرؤية المعرفية التي يمكن أن يستشفّها الإنسان من مجمل التراث الصوفي. وأعتقد أن «قواعد العشق» التي سُمّيت كذلك، سواء في الأدبيات الصوفية أو كما رسمتها الروائية «إليف شفق» في روايتها «قواعد العشق الأربعون» المبنيّة على أقوال جلال الدين الرومي وعلاقته مع شمس تبريز، لم توضع لتكون قيداً لا فكاك منه، أو خطّاً لا بدّ من المشي فيه، بل هي، كما تُصاغُ الروحُ الصوفيّة؛ سباحةٌ بين فيوضات الكون في أعلى مستوى من التحرّر الروحي، لحظةَ يُرتَقُ الجسدُ/الخرقة إلى جسدِ الأكوانِ، ويُخاطُ إليها بفعلٍ ربّانيّ هو الحب!.