التشكيل والفيسبوك.. عن ريشة وماوس.. ولوحة ديجيتال و”باليت” لجهة القلب!!
تحقيق: علي الراعي:
على ما يرى الكثير من المتابعين؛ فإنه لم تعد المعلومة والفن عموماً حكراً على الدولة ولا المؤسسات الإعلامية التي يسيطر عليها أباطرة المال.. كما لم يعد الكاتب بحاجة إلى صحيفة أو مجلة تنشر له كتبه أو رواياته أو دواوينه. ولم يعد السينمائي بحاجةٍ إلى مؤسسة السينما لإنتاج أفلامه أو صالاتها لعرضه.. كذلك لم يعد الدرامي بحاجة للتلفزيون الحكومي أو شركات الإنتاج لإنتاج أعماله الفنية وعرضها على الشاشات.
الآن وهنا
ذلك أن هؤلاء الذين ذكرناهم، وغيرهم أيضاً؛ يستطيعون أن يصنعوا رواياتهم ودراماهم وهواجسم، ويقدموها للناس، وللعالم من دون الحاجة للانتظار على أبواب أصحاب المنابر التقليدية، فالفضاء اليوم مُتاحٌ اليوم – من وجهة نظرهم – وأصبح للجميع من: الفيسبوك واليوتيوب والتويتر وغيرها من وسائل السوشيال ميديا، حيث يستطيعون الوصول لمن يريدون، ولكلِّ الناس.. لأنهم سيحاورونهم ويناقشونهم في تفاعلٍ مباشر، ويتعرفون رد الفعل على نتاجهم الآن وهنا..
عكاري: صالة العرض هي المكان الأجمل والأصلح لمشاهدة وتلقي العمل الفني
لكن ماذا عن نشر اللوحة التشكيلية والعمل النحتي، وبقية الفنون التي يُطلق عليها بالجميلة، بل ما هي القيم الجمالية التي يُمكن أن يُقدمها عملٌ تشكيلي مبني من ألفه إلى يائه إلكترونيّاً، أو كما أمسى يُطلق عليه (الذكاء الاصطناعي)، وهنا لابدّ من التذكير أنه طول الوقت كان ثمة مساعٍ لاكتشاف، وابتكار الأماكن البديلة، لعرض اللوحة بعيداً عن جدران الصالة الفنية، ولاسيما ضمن صفحتي كتاب مثلاً، وفي أماكن كالمقاهي وغيرها..
غير أنّ السؤال كيف يرى الفنانون التشكيليون العرض على “جدران وحوائط” الفيسبوك، وبقية أشكال التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنيت، وكان السؤال أيضاً: هل بتقديرك انتهى احتكار الصالة الفنية – الغاليري، وإلى الأبد مسألة العرض التقليدي، وهل أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي آفاقاً جديدة، وأوسع لنشر اللوحة التشكيلية، والعمل الفني بشكلٍ عام؟!
عن الأماكن البديلة
يُجيب الفنان التشكيلي خليل عكاري: لاشك في أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في نشر ليس فقط الأعمال الفنية، وأنما في التعريف بالفنانين التشكيليين، لكن باعتقادي أنّ صالة العرض هي المكان الأجمل والأصلح لمشاهدة وتلقي العمل الفني، ولاسيما اللوحة التشكيلية بكلِّ تفاصيلها، والصالة هنا ليست “الغاليري” فقط، بل تشمل المتاحف ومختلف الجدران التي ترتاح عليها اللوحة وصولاً لصالون المنزل، والتي تؤمن الاتصال المباشر مع العمل الفني. وهو اتصال عضوي لا يمكن من خلاله فصل المتلقي عن اللوحة بكلِّ حواسه، فيما مواقع التواصل الاجتماعي أشبه بمن يُشاهد حبيبته بالصورة، والفرق كبير بالإحساس .
عبد الله: أسوأ أيام اللوحة التشكيلية عندما تضغط على ماوس الكمبيوتر وتدَّعي أنك ترسم لوحة
الفيسبوك والتشكيل
ويُضيف عكاري: من المؤكد أنّ صفحات التواصل الاجتماعي ساعدت من جهة وهدمت من جهة أخرى.. ربما من الأفضل استخدامها للإعلان عن نشاط وليس لنشر لوحات، وذلك لسبب أن اللوحة لا تعطى حقها بالحجم ولا باللون، لأن الشاشة تلعب دورها، وكذلك دخل على خط التشكيل الكثير من الطفيليين من خلال الفيس.. وأيضاً الكثير يضع علامة لايك من دون تمعّن أو دراسة للعمل الفني وذلك من خلال علاقات خاصة على الصفحات أو بعلاقاتٍ شخصية، والمتلقي على الفيس هو بالأكثر من العموم، والتخصصيون في هذا المجال أقلاء على هذه الصفحات.. كذلك هناك أمر مهم جداً هو مصداقية الناشر للعمل الفني حيث لا رقابة ولا ما يمنع تمدد هذه الظاهرة؛ أي تزوير أغلب الأعمال، ويتمنى عكاري من الأصدقاء الذين يمشون في منحى التشكيل أن يكتشفوا الأعمال وأصحابها والإبلاغ عن ذلك وهذا حفاظاً على سمعة الفنان والعمل الفني.. لكنه يرى من ناحية أخرى أنّ صفحات التواصل الاجتماعي ساعدت في تعريف المتصفحين العاديين على تعلم الرؤية الجمالية، وأيضاً على توصيل بعض الأسماء المغمورة، في معظم البلدان المتقدمة تستخدم صفحات التواصل في تسويق العمل الفني، وأيضاً المزادات الفنية، ولكن في النتيجة لا يمكن اقتناء عمل فني من دون رؤية مباشرة وتفحص دقيق، ويختم: وفي النتيجة تبقى اللوحة أسيرة مرسم الفنان إن لم تلقَ رواجها في السوق والاقتناء، وقد تكون صفحات التواصل قلصت حضور المتلقين إلى صالات العرض..
جهة القلب
على ما يذكر الفنان السوري المغترب؛ عبد السلام عبد الله، فقد كانت «الباليت» توضع على اليسار بجانب القلب، وأسوأ أيام اللوحة التشكيلية بتقديره؛ عندما تضغط على ماوس الكمبيوتر، وتدعي أنك ترسم لوحة، وفي هذا المجال، يستثني فن التصميم، أو الإعلانات البصرية.. من هنا، هو يرى؛ أنه من «الفظاعة» عندما يدّعي أحدهم، ويقول: إنّ الانطباعية – على سبيل المثال – انتهت بظهور الكاميرا، وكذلك مدارس مثل: «التكعيبية والسريالية».. هي قد تكون انتهت كمدارس فنية هذا صحيح، انتهت بحرفيتها التي كان يتناول حينها الفنانون شغلهم الفني، فيما بعد سيكون على الفنان التشكيلي أن يُضمّن في لوحته ملامح مختلف أنواع المدارس الفنية.
بصمه جي: وسائل التواصل الاجتماعي أحدثت وبشكلٍ مذهل انقلاباً على وسائل الإعلام التقليدية بسرعة التواصل والتفاعل مع الآخرين..
أدوات وحسب؟
ومع إن البعض يرى أنّ الألوان والباليت، وكذلك الماوس والحاسوب؛ كلها مجرد أداة، يمكن أن يُنشئ من خلالها الفنان الحقيقي، الكثير من أنواع الفنون وغير الفنون، فإن هذه الأدوات لا ترتبط بمطلقية الفن؛ لأنّ مخيلة الفنان ورؤياه؛ هي من تتحكم بولادة العمل الفني، والطرح النهائي لها بغض النظر عن الخامات التي تتغير مع مرور الزمن، وفلكلِّ عصرٍ خصوصيته، ومن الأمثلة على ذلك، فإن فيلم «هاري بوتر» الحائز على جائزة الأوسكار بكلِّ أجزائه، تمّ تسجيل إنجازه في استوديو محدود مع آلة حاسوب وماوس، فهل ذلك قلل من قيمة العمل؟!.. كذلك الأمر، فإنّ نظرة المتاحف للفن التشكيلي اليوم، ليست ساذجة عندما تعرض الفنون التشكيلية بكلّ موادها وتقنياتها، ومن بينها الفنون الرقمية، حتى إن بعض صالات الفن أصبحت متخصصة بعرض الفنون الرقمية، وفنون الفيديو آرت، وغيرها.
مسألة الإحساس
الاختلاف– ربما – الذي يقف عنده الكثير من الفنانين؛ عند نقطة واحدة فقط؛ وهي مسألة «الإحساس»، بمعنى هل استطاع فنان الديجيتال – الذكاء الاصطناعي- أن يضع إحساسه، وتوقه في لوحة الديجيتال، والعمل الرقمي، والأكثر من ذلك؛ هل المتلقي لمثل أعمال كهذه، يُمكن أن يتلقى تلك الأعمال الرقمية بإحساسٍ عالٍ كما يتلقى ذلك العمل التشكيلي الذي وضع الفنان كامل إحساسه وروحه في طياته، كما في أعمال الصلصال على سبيل المثال وغيرها؟!
هل يستغني المبدعون عن الوقوف طويلاً على أبواب أصحاب المنابر التقليدية؟!
ربما ثمة نجاحات، تحققت باستخدام الحاسوب في الفن السابع والتصميم وعالمهما، واليوم الذكاء الاصطناعي الذي يُهدد بالإطاحة بكلِّ المبدعين.. لكن نادراً ما شاهدنا نجاحات أخرى موازية في أنواع من الإبداع المختلفة الأخرى إلّا ما ندر، على الأقل حتى هذه اللحظة.. ذلك أن الماوس والكمبيوتر بلا إحساس على ما يصّر عليه معظم الفنانين التشكيليين، بعكس الريشة التي على ما يبدو لها مجسات تتصل بأعصاب المبدع، الأمر الذي يُظهر هذه الحالة الحميمية مع الأعمال «المعجونة» بأصابع اليد ويقينها.
صيّاد الطبيعة
في هذا المجال يبوح لي الفنان عبد السلام عبد الله، الذي طالما ضاهى الكاميرا في معالجة وإيجاد المعادلات الطبيعية في لوحته، يقول أولاً: أنا في الطبيعة صيّاد، اصطاد المشهد من لونيات الطبيعة وأضوائها آنياً وزمنياً ومكانياً.. ولكن أقول أيضاً: العين كاميرا بإحساس، والكاميرا عين من دون إحساس.. من هنا أرصد تقلبات اللون والضوء، وما تدركه العين، لا تدركه الكاميرا.. العين ترى، والعقل يدرك واليد تنفذ.. ومن هنا لا خوف من الوقوع في التماثل، لأنّ لكلِّ مشهد خصوصيته التي لا تشبه خصوصية مشاهد أخرى.
ماذا عن فنون الكاريكاتير؟!
ومع وصول الصحافة الورقية إلى مرافئها الأخيرة، يبدو فن الكارياكتير إنه كان أكثر المتأثرين من غيابها، وهو الذي وجد على صفحاتها حياةً طويلة، وحتى اليوم لا يبدو أنه تصالح أو تكيّف مع الميديا الجديدة، وكنت سابقاً قد سألت الفنان الراحل عبد الله بصمه جي عن حال الكاريكاتير الجديد؛ حيث قال: كما هو متعارف عليه اللوحة التشكيلية بيئتها المعارض وصالات العرض، رغم أن عدد روادها قلة، وهي غالباً النخبة الثقافية المهتمة بالفن التشكيلي، ومن ثمّ بقيت الفنون الجميلة نخبوية وبعيدة عن الشعبوية طول الوقت..
ويضيف: على صعيد وسائل الإعلام من مقروء ومرئي كان دورها خجولاً أيضاً، حيث لم تستطع إيصال ونشر هذا الفن جماهيرياً بالطريقة التي تليقُ به، إلى أن أتت وسائل التواصل الاجتماعي، إذ أحدثت وبشكلٍ مذهل انقلاباً على وسائل الإعلام التقليدية، وذلك بسرعة التواصل والتفاعل مع الآخرين، والحقيقة (الإنترنيت) من جعل العالم قريةً صغيرة، وليس وسائل الإعلام التقليدية.. اليوم أصبح كلُّ فنان يستطيع نشر وإيصال أعماله إلى أكبر عددٍ من المتابعين، وهو ما عجزت عنه ذلك وسائل الإعلام التقليدية وصالات العرض والمعارض مجتمعة.. وبخصوص فن الكاريكاتير فقد كان الأكثر حظاً بالانتشار عن بقية الفنون التشكيلية باعتبار بيئته الصحافة الورقية التي ساعدته فيما مضى على الانتشار، ورغم ذلك – يرى بصمه جي – كان بشكلٍ محدود ضمن شريحة قراء الصحف فقط ..
هل ينجح الذكاء الاصطناعي بعقول المبدعين التقليديين من فنانين تشكيليين وغيرهم؟!
حيث لم تستطع تلك الوسائل الإعلامية إيصاله إلى أكبر شريحة كما فعلتها وسائل الاتصال الحديثة.. ومن تجربتي فبعد أن غاب اسمي طويلاً بعد وصول الصحافة الورقية إلى خواتيمها، فإنه مع ثورة وسائل التواصل الاجتماعي وبفترة قصيرة نسبياً استطعت من خلالها العودة إلى الساحة السورية والتفاعل مع جمهورها الخاص والعام من خلال توصيل أعمالي لهم، وأرى أنّ هذه الوسائل أكبر مسوّق للفن، وأنها تساعد على الانتشار السريع.
كان طول الوقت ثمة مساعٍ لاكتشاف وابتكار الأماكن البديلة لعرض اللوحة بعيداً عن جدران الصالة الفنية
وجهتا نظر
وتأكيداً على ما ختم به الصديق الراحل بصمه جي؛ فإنّ الكثير من التجارب الفنية التشكيلية، لم نكن لنتعرف عليها لولا صفحات أصحابها على الفيسبوك على وجه التحديد.. وربما قرّبت هذه الميديا الجديدة هذه الفنون النخبوية من الناس العاديين، وخففت الكثير من نخبويتها..
إذاً: الصالات لها فعلها الترويجي والتسويقي ونشر الرؤية وغير ذلك.. لكن الأحدث افتراضياً هي عملية أكثر، وأسرع من غيرها في نقل طزاجة الفعل الفني وسهولة الوصول إليه وتلقيه.. ويبقى الكتاب أيضاً سريع التصفح والحوار وبمتناول الجميع.. غير أنّ الوسائل الحديثة هي «اقتطاع» لمسافات بين أمكنة العرض والمتلقي، أو هي ألغت المسافة بين النتاج الفني ومتذوقه. وتبقى لكلِّ وسيلة عرض خصوصيتها التي عليها أن «تُناضل» في سبيل بقائها واستمرارها وزيادة فعاليتها.. وكلُّ ما تقدم هي وسائل نشر، أو حوامل عرض، وهذا يختلف عن أن تُنجز العمل الإبداعي من خلالها.