سقوط الأساطير المؤسسة 

تشرين- ادريس هاني:

ورطة الاحتلال الكبرى هي في أنّه ما زال على عهد الفكرة الأثيرة عند هرتزل، الفكرة المزيجة لقيام دولة لليهود، بتفعيل ظاهرة معاداة السامية التي وصفها بأنها بلغت مسامع العالم، وبالتالي استغلال وضعية درايفوس في خلق ما يراه بمثابة المدينة الفاضلة، بل الحركة الواقعية مع الخيال الذي تمده به السردية التلمودية. الدافعة الواقعية التي تمثّلها فكرة المحنة.

هذه المفارقة التي ظن هرتزل أنّها سهلة ومطواعة ويمكن أن تلتفّ على التاريخ الذي هو أطول منها، بلغت اليوم الباب المسدود.

منذ البداية كان من المستحيل قيام دولة بناء على واقع يلفظها، أو بناء على أساطير مؤسسة تؤمن بها الجماعة في منغلقها السوسيو-تاريخي والديني، مهما حاول بعضهم كما فعل ليفيناس أنّ يمنحها بعدًا إنسانياً وكونياً من منطلق أن داخل كلّ منا يوجد يهودي. فالمسألة كما ورّطهم فيها هرتزل تتجاوز المحنة والبعد الاستدماجي الذي ذهب إليه الدرايفوسيون (dryfusiens) وليس الدرايفوسيويون(dryfusistes)، لأنّ المسألة بلغت حدّ الاستغلال، فالمسألة لا تنحل بإقامة دولة تساءل حولها القوم بسؤال: فلسطين أم الأرجنتين؟ الحل ليس كما ذهب برونو باور فيما عالجه ماركس، وقبله محمد رشيد رضا في المنار تفاعلاً مع مقالة إميل زولا: “أني أتّهم”، حين أقرّ بخطر تسرب التمييز العنصري إلى الهيئة الشرقية.

فشل هرتزل وورط يهود أوروبا في مصير غامض على إثر قضية فجرتها مشكلة وحساسية الألزاس والنزاع الفرنسي- الألماني.

اليوم، وفي تاريخ المنطقة، ما هو أقدم من أساطيرهم، في اليمن حيث نشأت مدنية أثارت فضول هدهد سليمان، من هناك حيث اندكت كل قواعد الاشتباك، سيأتي الحدث الذي أعاد فكرة الحركة المزيجة إلى خيبة أمل، الضرب في مركز الاحتلال، فالتقنية التي باتت عنوان ذهان التفوق لاحتلال لم تعد الإمبريالية قادرة على إسناده إلى الأبد، هي اليوم أمام تحدّي التصعيد التقني الذي ما فتئ يتطور يوماً بعد يوم. لقد وُضعت فكرة النهايات بديلاً عن فكرة “الدولة” التي وُلدت ميتة، وكلفت العالم ضريبة فائقة من المفارقة.

التّاريخ الذي يرسم خططه بخلاف خطط الإمبريالية، غير كلّ الحسابات. السقوط المدوّي لكل السرديات الكبرى، بل سرديات المنطقة التي بالغت في التشنيع وشيطنة من هم اليوم طليعة النزال. لسنا أمام تاريخ ممتد وإن كلفنا أربعين عاماً من المقارعة وإنصاف الأمم والتحرر من الأحقاد والمقاربات العنصرية والطائفية والتّآمرية. اليوم من هم يا ترى، طليعة محور لولاه لبيعت القضية الفلسطينية في سوق النخاسة؟ فحتى بداية طوفان الأقصى، كان هناك من ما زال يلوح بأنّ موقف المحور هو مجرد لعبة. ومع إنّ كلّ هذا التِّقْوال أصبح تحت الأقدام، لمّا جدّ الجد، إلّا أنّ الداء ما زال مستحكماً. اليوم الذين يتصدرون مشهد المقاومة والإسناد هم: إيران، سورية، اليمن، العراق، الفصائل الفلسطينية، حزب الله، هم هؤلاء، فثمّة من آثر الصمت وابتلع لسانه، وهناك من هرب إلى الأمام وزعم أنّه كان مع المحور، بما يوحي أنه لم تكن هناك مشكلة. المحور الذي ذاق كل صنوف العدوان والتشويه منذ الدفاع المقدس، منذ عشرية العدوان على سورية، منذ عشرات السنين من التشنيع. في البيداء العربية فقط، وفقط، يمكن أن نهرب إلى الأمام، يمكن أن نغير العبارة، يمكن أن نتعلل وتنتهي الحكاية. اليوم لم ينتصر محور المقاومة على ثقافة الهزيمة فحسب، بل انتصر أيضا على التشنيع والتهريج، على كلّ السرديات التي تبنّتها القوى الظلامية والرجعية، وما زالت تتبنّاها في كواليسها، تفضحها الكراهية التي تحتفظ بها هذه الشراذم والدكاكين لمن تراهم شهوداً على بهلوانياتها.

اليوم، عود على بدء، يدفع الاحتلال ثمن أساطيره وذُهانه المزمن، إنّه لا يرى ما تقترفه يده من جرائم ضدّ الإنسانية، حتى برنار هنري ليفي ما زال يتواقح أكثر في نفي هذه الجرائم، حيث يرى، وبكل حقارة، بأنّ ما يفعله الاحتلال ينطوي على احترام لقواعد الحرب واحترام الإنسان، ويلوذ بمقارنات سخيفة كعادته، هذا ما يراه منظر “الربيع العربي” الذي وضعته المقاومة تحت القندرة.

الموقف الذي لامنا عليه المرجفون، هو اليوم ماثل أمامهم، وليس في وسعهم إلّا تمثّل ما لامونا عليه من قبل، فالمقاومة فعل إستراتيجي، والمقاربة الإستراتيجية ليست تمنّيات، هناك من تقولوا في إسناد سورية في معركتها ضد العدوان، لقد تقولوا كثيراً، وزادوا تقولاً في دخول المقاومة إلى القصير، وطالت ألسنتهم، وهم اليوم يعربدون حتى في القنوات المحسوبة على المحور نفسه، لا يملكون الشجاعة للاعتراف ببؤس مقارباتهم، يفكرون في الهروب إلى الأمام. ما الذي تغير؟ إنه الواقع، إنها الحركة الجوهرية للحقيقة الجيوبوليتيكية، الاحتلال في حيرة، والمقاومة تتطوّر، وفكرة المخاطرة التي بنى عليها الغرب والاحتلال مشروعه، هي اليوم تقابل بما هو أبعد من مخاطرة رهان باسكال، بل بيقين الشهادة ووثوقية الفرسان.

إنّ محاولة التصعيد في ردّ الفعل، سينتهي بالتحلل من كل قواعد الاشتباك، اليوم لا شيء بات متفقاً عليه في هذه القواعد، وكل الضربات باتت ممكنة، ودائماً لا يصحّ إلّا الصحيح، وذنبنا أنّنا لم نتغيّر في وعينا بطبيعة اللعبة، ذنبنا الوحيد وضوح المصائر والمآلات لدينا، لهذا يكرهوننا.

كاتب من المغرب العربي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار