قمة بوتين – مودي.. وأميركا التي لم تعد «ثاني اثنين».. الاقتصاد العالمي يحمي نفسه بعيداً عن الخنادق الجغرافية الطاحنة التي تحفرها الولايات المتحدة دوليّاً وقاريّاً

تشرين – مها سلطان:
درج في السياق التاريخي ما بعد الحرب العالمية الثانية، أنه ما اجتمعت دولتان– في أي مكان من العالم – إلّا وكانت الولايات المتحدة الأميركية ثالثهما، أو بعبارة أدق ثاني اثنين بكل اجتماع بين دولتين.
في العقدين الماضيين لم ينحسر هذا السياق بقدر ما إنه شهد تحولاً دراماتيكياً باتجاه سعي العالم بقواه الصاعدة/الجديدة، والقديمة الجديدة/ إلى تحييد نفسه أو بعبارة أدق حماية صعوده القوي ومكتسباته الهائلة، خصوصاً الاقتصادية، بعيداً عن الخنادق الطاحنة التي تحفرها الولايات المتحدة، وآخرها بين روسيا وأوكرانيا (أما جبهة غزة فهذه شأن آخر وإن كانت الولايات المتحدة تحاول الحفر فيها أيضاً لتكون جبهة صد ورد /ودحر/ على هذه القوى الكبرى الصاعدة، طالما أنها، أي الولايات المتحدة، لا تستطيع هزيمتها أو احتواءها بالحروب التقليدية، بالوكالة أو بالأصالة لا فرق.. حيث إن إمكانية الحفر داخلها أو حولها غير ممكنة بفعل أن هذه القوى قام اجتماعها وتكتلها على أساس متين يتمثل في إدراك قوة وحجم إمكاناتها وهي هائلة بكل معنى الكلمة، هذا من جهة.. ومن جهة ثانية إدراك قوة التحالف مع غيرها بعيداً عن الحروب والاضطرابات، والأهم بعيداً عن التبعية).

قمة بوتين مودي تأتي في إطار سياسات الدول التي تهندس العالم متعدد الأقطاب.. وهي تسعى تحديداً إلى حماية مكتسباتها الجيو- اقتصادية الهائلة بعيداً عن الخنادق الطاحنة التي تحفرها الولايات المتحدة حول العالم

الولايات المتحدة أكثر من يدرك ذلك، وأكثر من يقرأ بتعمق شديد الانزياحات الكبرى في الخريطة العالمية، وتكتشف في كل مناسبة أو حدث دولي أن تأثيرها بات بالحد الأدنى، لقد تعلمت القوى الصاعدة (وحتى الدول التي طالما كانت نهباً للغرب/ في افريقيا مثلاً) كيف تدير قواها الذاتية وإمكانياتها الاقتصادية، لتعزيز ثقة القرار والسلطة والسيادة في يدها، بعيداً عن اليد الأميركية.. وإذا كانت الولايات المتحدة تريد البقاء في الساحة، لا بأس، ولكن على قدم المساواة والعدالة، وعلى مبدأ المصالح والمنافع المشتركة، بل على مبدأ الالتزام والاحترام لهذه المصالح والمنافع.

– القمة/ الرسالة
من هنا تأتي القمة الروسية- الهنديةالقمة الروسية- الهندية، بين الرئيس فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، لتكون رسالة قوية للولايات المتحدة الأميركية، والغرب عموماً، بأن العالم طوى فعلياً صفحة العالم القديم وفتح صفحة عالمية جديدة قوامها، أطراف وقوى متعددة، جميعها قوية ومزدهرة، وتعرف كيف تدافع عن نفسها وعن مكتسباتها، بالسياسة وبالاقتصاد وحتى بالجغرافيا.. بالتحالف أو بالتفاهم أو باجتماع المصالح.. وحتى بالحرب إذا ما أرادتها أميركا.
قبل عام بالتمام من الآن، زار مودي واشنطن. إدارة بايدن احتفت به بشكل غير مسبوق. كل العالم شاهد كيف كان أعضاء الكونغرس الأميركي يتسابقون لالتقاط الصور معه وأخذ توقيعه. وهو مشهد لم يكن بأي حال يصب في خدمة تفوق الولايات المتحدة، بقدر ما كان يُعلي من قيمة الهند، ويعترف بصعودها القوي وغير القابل للرد على الساحة الدولية. لم تقف إدارة بايدن كثيراً عند هذه النقطة، كان الهدف هو فعل كل ما يتطلبه الأمر لاستمالة الهند بعيداً عن روسيا والصين، وتعزيز ما يسميه خبراء الجيو- سياسة «مصفوفة استراتيجية ثنائية» مع الهند (ومن يماثلها في الأهمية أميركياً/السعودية مثلاً) للتأثير بصورة جذرية على محور روسيا/الصين، وبشكل أعم على سياق دولي يقوض بصورة متسارعة مكانة أميركا على رأس الهرم العالمي.
لا يخفى أن واشنطن سعت خلال زيارة مودي إلى تظهير وتضخيم «أسباب التوتر» بين الهند وروسيا. أرادت أميركا اللعب هنا. هو ملعبها، وتاريخياً كانت دائماً منتصرة من خلال جر الدول إلى ملعبها. في نهاية الزيارة قال بايدن: إن العلاقات الأميركية الهندية باتت أقوى وأوثق وأكثر فاعلية من أي وقت في التاريخ.
عاد مودي إلى بلاده بسلة مليئة بالاتفاقيات وبـ«صورة عالية الجودة» لمكانة بلاده عالمياً، وهو ما انعكس على مستوى المستقبل السياسي لمودي نفسه مع إعادة انتخابه رئيساً للوزراء للمرة الثالثة، الشهر الماضي.
عملياً لم ينبهر العالم كثيراً بالصورة التي سعت إدارة بايدن لتظهيرها فيما يخص الزيارة، والعلاقات مع الهند. العالم أظهر بالمقابل أن يحتفظ بقراءة واقعية جداً، ودقيقة جداً، للخريطة الجيو اقتصادية العالمية، ولموقع الهند فيها، ولحقيقة أن الهند تعرف جيداً موقعها ومكانتها وإمكانياتها وتتعامل مع الولايات المتحدة على هذا الأساس.

بين واشنطن وموسكو
بعد عام من تلك الزيارة الشهيرة، ها هو مودي يحط في روسيا، ويلتقي بوتين في اجتماع قمة سبق وأن أعربت واشنطن عن انزعاجها وقلقها منه. يبدو – بالنسبة لواشنطن- أن مفاعيل تلك الزيارة الشهيرة ذهبت أدراج الرياح، والعلاقات التاريخية التي أعلن عنها بايدن في ختام زيارة مودي، باتت في مهب رياح الرئيس بوتين.

تنطوي زيارة مودي إلى موسكو على رسالة واضحة جداً لأميركا مفادها أن العالم طوى فعلياً صفحة العالم القديم وفتح صفحة جديدة قوامها تكتلات وقوى متعددة جميعها قوية ومزدهرة

الأهم هنا أن لا روسيا ولا الهند ينكران أن هناك عدة أسباب «توتر» العلاقات، أو بعبارة أفضل ترخي بظلال سلبية على مستقبل العلاقات، لكنها بالمطلق لن تقف عائقاً عصيّاً في وجه تعزيز العلاقات. وإذا ما أخذنا كلياً بما يقوله المراقبون حول أن الهند تبحث عن مصالحها في الدرجة الأولى، فإن هذا يكفي لتعزيز العلاقات وتجاوز أسباب التوتر، والأمر نفسه يقال عن روسيا. وفي سياق ديكتاتورية الجغرافيا، فإن روسيا تتقدم في الأهمية على أميركا. وفي الصراع الاقتصادي، إذا جاز لنا التعبير، فإن روسيا تتقدم أيضاً في الأهمية على أميركا، إذا ما أخذنا بالاعتبار أن هذا الصراع يتركز حول الصين وقوتها الاقتصادية الضاربة.. أما أوكرانيا، فإن الهند أكثر من يدرك كيفية التعاطي مع هذه المسألة، سواء في العلاقة مع روسيا، أو في العلاقة مع الولايات المتحدة، وهو ما شهدناه عملياً منذ بدء العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا قبل نحو عامين ونصف العام.

بالنسبة للهند وفي سياق ديكتاتورية الجغرافيا فإن روسيا تتقدم في الأهمية على أميركا.. وكذلك في الصراع الاقتصادي إذا ما أخذنا بالاعتبار أنه يتركز حول الصين وأميركا

ورغم أن الهند نأت بنفسها عن مسألة أوكرانيا، ورفضت إدانة العملية الروسية الخاصة إلا أنها كانت تدرك مسبقاً أن أميركا ستتجاوز ذلك لحاجتها إلى الهند، وتالياً فهذه الأخيرة ليست مجبرة على اتخاذ موقف سلبي من روسيا يؤثر على تعاونهما الحالي والمستقبلي.
اللافت هنا أنه بقدر ما يتم التركيز على روسيا في هذه الزيارة/القمة، وهذا عائد على وضعية روسيا العالمية عموماً، ومسألة أوكرانيا خصوصاً.. فإن التركيز الأميركي الأكبر هو على الهند وقوتها المتصاعدة، في ظل التقارير التي تشير إلى أن الهند ستتجاوز الصين في العقدين المقبلين، لتصبح مشكلة حقيقية بالنسبة لأميركا. ومن هنا فإن التركيز الأميركي على الهند يتجاوز مسألة علاقاتها الدولية، أو استمالتها، ومن هنا فإن التركيز الأميركي على الهند يتجاوز مسألة علاقاتها الدولية، أو استمالتها، إلى ما هو أبعد مستقبلاً، وإذا ما كانت تسعى حالياً لضرب الصين بالهند، أو ضرب روسيا بالهند، فإن السؤال التالي هو بمن ستضرب أميركا الهند إذا ما تحولت إلى مشكلة أميركية.

القلق الأميركي
بكل الأحوال، لماذا زيارة مودي لروسيا مهمة وضرورية في سياق التحالفات والتكتلات الدولية الصاعدة، ولماذا هي مقلقة لأميركا؟
– تقول صحيفة «نيويورك تايمز» في تعليقها على الزيارة: تبدو الهند في عهد مودي مفعمة بالثقة. إن الأغلبية العظمى من الهنود استيقظت على حقيقة عدم الحاجة إلى الإيديولوجية الغربية. ويرون أنهم قادرون على تحديد مسار بلادهم وأن مودي جدير بالثقة في هذا الخصوص.
– تقول وكالة «بلومبرغ» الأميركية: هذه الزيارة هي الثانية لمودي. ويمثل قراراه السفر إلى روسيا بدلاً من الدول المجاورة مثل بوتان وجزر المالديف وسريلانكا خروجاً عن التقاليد بالنسبة للقادة الهنود. وتضيف الوكالة الأميركية: بالنسبة لموسكو تساعد الزيارة في دحض المزاعم الغربية بشأن عزلة بوتين بسبب أوكرانيا، وتسهم في تعزيز العلاقات مع شريك تجاري مهم، ومشتر رئيسي للنفط الروسي.

أميركا والغرب مستاؤون من زيارة مودي لأنهم يخشون الخارطة الجديدة التي ترسم على مستوى العلاقات الدولية.. ويخشون مستوى المصالح الجيوسياسية التي ستتبادلها روسيا والهند

– يقول مدير مؤسسة «USI / مؤسسة الخدمات المتحدة» في الهند، شاشي يوشان: يجب النظر إلى الزيارة بشكل صارم في سياق ثنائي. هناك آلية مؤسسية قائمة لاجتماع قادة روسيا والهند سنوياً. إنها عملية مستمرة تجري، منذ عام 2000، ولا ترتبط الزيارة بشكل مباشر بأوكرانيا على الإطلاق.. ولا بأي حدث جيوسياسي وإن كان الوضع الجيوسياسي سيبدو بارزاً في هذه الزياة.
– الرئيس بوتين قال لمودي خلال لقائهما الأولي غير الرسمي أمس الاثنين: لديك أفكارك الخاصة، وأنت شخص نشيط للغاية، وتعرف كيفية تحقيق نتائج لصالح الهند والشعب الهندي، مشيراً إلى أن الهند تحتل بكل ثقة المركز الثالث في العالم من حيث الحجم الاقتصادي.
– بنظر المتابعين والمحللين فإن الهند التي يقودها مودي مختلفة تاريخياً، فهي تنعم بثقل اقتصادي وجيوسياسي أكبر من ذي قبل. مودي يدير العلاقات مع الهندية الدولية ، خصوصاً مع أميركا بصور مبهورة دون أن يكون ذلك على حساب استقلالية القرار الهندي
– أميركا والغرب مستاؤون من زيارة مودي لروسيا لأنهم يخشون من الخارطة الجديدة التي ترسم على مستوى العلاقات بين بلدان العالم، ومن مستوى المصالح الجيوسياسية التي ستتبادلها روسيا والهند.
– العلاقات الروسية الهندية كانت ثابتة جيوسياسياً، وصمدت أمام اختبار الزمن، وباتت الآن تشمل العديد من المستويات مثل التجارة، والطاقة، والدفاع، والتعاون النووي المدني، فضلاً عن مسألة المدفوعات.
– حجم التبادل التجاري بين روسيا والهند حلق إلى رقم قياسي جديد الشهر الماضي بلغ 17.5 مليار دولار، خصوصاً النفط فقد زادت الهند من مشترياتها من النفط الروسي الرخيص إلى مستويات قياسية.

لنلاحظ المفارقة التالية:
تعدّ الولايات المتحدة أكبر شريك تجاري للهند في الوقت الراهن بـ 130 مليار دولار في صورة بضائع، فيما تعدّ دلهي ثامن شريك تجاري لواشنطن. والمفارقة هي في تجارة النفط بين الهند وأميركا والتي تصب في نهاية المطاف، أموالاً هائلة في خزائن روسيا، إذا ما أخذنا مستوى الاستيراد والتكرير واعادة التصدير، وأن الهند ليست ضمن سياق حرب العقوبات على روسيا.
وعملياً، لا تشمل العقوبات المنتجات المكررة خارج روسيا، وهو ما يطلق عليه «ثغرة المصفاة». وتعد الولايات المتحدة أكبر مشتر للمنتجات المكررة من الهند المصنوعة من الخام الروسي العام الماضي وبأرقام قياسية.وترتفع قيمة صادرات المنتجات النفطية بشكل كبير بمجرد إضافة حلفاء الولايات المتحدة الذين يفرضون أيضاً عقوبات على روسيا.
– لا تخفي الهند رغبتها بأنها لا تريد أن تحسب على معسكر بعينه، ولا أن يُنظر إليها في موضع التابع لقوة دولية. تريد أن تبني قوتها ذاتياً، وفق سياسة مودي القائمة في العلاقات الدولية على ما يسمى «الإيثار الاستراتيجي» أي استقلالاً تاماً في الخيارات والقرارات، وهذا لا يتعارض مع السياسات الروسية ولن يشكل أزمة في مستقبل التعاون بين البلدين، وتطويره إلى أعلى المستويات، بل وأخذه إلى مواقع غير متوقعة.

بين قمتين
يبقى أن نقول ومن دون مبالغة أن قمة بوتين – مودي سرقت الحدث من قمة حلف شمالي الأطلسي «ناتو» المنعقدة بالتزامن في واشنطن، رغم كل ما يُقال عن أن قمة الناتو ستكون علامة فارقة في تاريخ الحلف لناحية ما سيتم اتخاذه من قرارات. قمة بوتين – مودي كانت حاضرة بلا شك على طاولة الناتو اليوم. لقد باتت الانزياحات الدولية الكبرى المتوالية وبصورة متسارعة من الخطورة بحيث أن الغرب الأميركي بات في أزمة مزمنة لا يعرف كيف يتعامل معها ولا كيف يخرج منها.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار