كِتابُ «شعراؤنا يقدّمون أنفسَهم للأطفال».. قطراتُ ماءٍ صافية!
تشرين- جواد ديوب:
عاش الراحل الشاعر سليمان العيسى حياته المديدة باحثاً عن نوافذَ ضوءٍ تجعلُ نورَ المعرفة يدخل إلى حياة الأطفال، بل إلى تفاصيل ألعابهم اليومية عبر القصائد والأناشيد التي ظلت أجيالٌ عديدة ترددها وتترنّم بها.. وكتابه النادر هذا “شعراؤنا يقدمون أنفسهم للأطفال” (إصدارات وزارة الثقافة) يأتي من شغفه بنقل التراث العربي الشعري إلى أطفال الزمن المعاصر بصورة مشوقة تثير اهتمامهم وتجعل من ذاك التراث مكوناً من مكونات شخصياتهم، “فالمواطن المرتبط بالجذور أقدر على الصمود ومواجهة العدوان ممن لا روابط له، وهدفُ المربّي إيجادُ هذه الروابط” كما توضخ الدكتورة “ملكة أبيض” زوجة الشاعر الراحل في كلمتها حول الكتاب، خاصةً أنها تقدّم لنا معلومة مهمة هي: “أن مخطوط الكتاب كُتِبَ بعد خيبة الخامس من حزيران والتي جعلت الشاعر العروبي سليمان العيسى يبحث عما يشكل ولو بارقة أملٍ بمستقبل الأمة”.
رحلة ممتعة
اللافت في الأسلوب المميز الذي ابتدعه العيسى هو الشكل الذي قدم به شعراءَنا العرب من عصور مختلفة جاهلية وأموية وعباسية كما لو أنه رحلة ممتعة في التراث بمرافقة صانعيه أنفسهم، إذ إنه اختلق سيناريوهات متنوعة يتحدث بها الشعراء إلى الأطفال ويحكون لهم عن معاني أسمائهم، ومختصرات من حياتهم وأسفارهم، وعلاقاتهم مع الخلفاء والملوك عبر مقتطفاتٍ شعريةٍ من قصائد مديحهم أو هجائهم أو غزلياتهم الحلوة وأسباب إنشادهم لتلك القصائد.
بل ابتدأ كتابه بمحاورة بينه وبين بلبلٍ على مقعد حديقة، يعاتبه البلبلُ أنْ لماذا لا يقدم الشعراءُ للعصافير موسيقا أشعارهم وسقسقةَ أصوات قصائدهم كما تفعلُ البلابل الكريمة مع البشر؟ فيجيبه الشاعر العيسى بأنه: “لم يخطر في بال أحد يوماً أن البلابل تريد أن تحفظ الشعر… ربما لأن شبابنا وأبناءنا قد أصبحوا يتقاعسون عن حفظ قصيدةٍ ويهربون منها، فيقاطعه البلبل: ولكن كيف يهرب الإنسانُ من أجمل شيء في حياته؟”، ثم يعِدُ الشاعر البلبلَ بأنه سيكتب للبلابل وللأطفال حكاياتٍ عن أبرز شعراء الأدب العربي الذين اختارهم من أجودِ المواهب وأعمقها تأثيراً بأجيال قديمة وحديثة.
وبالفعل اختار العيسى سبعة وعشرين شاعراً، مُحوِّلاً التركيزَ من المقطوعة الشعرية فقط إلى التركيز والاهتمام على العلاقة بين الشاعر (الكاتب/الإنسان) والطفل الذي قد تربطه صلة حميمة مع ذاك الشاعر فهو جَدُّه البعيدُ القريب، وكان لافتاً أنه ابتدأ بمن أصولهم من سورية مثل: أبو تمّام المولود في قرية جاسم من حوران وينتسب لقبيلة “طيّ” التي كان منها حاتم الطائي المشهور بالكرم. والذي يترك للأطفال قصيدة مديحٍ لأجداده يقول فيها:
أنا ابنُ الذينَ اسُترضِعَ الجُودُ فيهمو
وسُمّيَ فيهمْ، وهو كهلٌ ويافعُ
بَهاليلُ (أسيادٌ) لو عاينتَ فيضَ أكفّهم
لأيقنتَ أن الرزقَ في الأرضِ واسعُ
إذا خَفَقَتْ بالبذلِ أرواحُ جودِهِمْ
حداها الندى واستنشقتها المطامعُ..
يقدم الراحل سليمان العيسى الشعراء بطريقة سحرية محببة للقراء، فيجعلهم يبدؤون كلامهم دائماً بـ “أحبائي الأطفال” أو “أعزائي الصغار” لكنه ينوّع فيختار أن يتحدث الشاعرُ ابن زيدون مثلاً إلى طفلةٍ اسمها “رشا”، وأن يقول آخرُ “صديقي الصغير صفوان” أو أن يخاطبَ الشاعرُ “الحطيئة” (ومعناهُ الرجل قصير القامة) طفلةً باسم “مُليكة” قائلاً لها:
أليسَ مصادفةً جميلة أن يكون اسمك هو نفسه اسم ابنتي التي صرتُ فيما بعد أُكنى بها فينادونني: أبا مُليكةَ؟ ويحكي لها كيف سجنه الخليفةُ عمر بن الخطاب لكنه رقّ لحاله حين خاطبه يستعطفه أنه تركَ أولاده بلا أبٍ يكسبُ لهم طعامهم، في قصيدة قال فيها:
ماذا تقولُ لأفراخٍ بِذي مَرَخٍ
زُغْبِ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شَجَرُ؟
ألقيتَ كاسِبَهم في قعرِ مُظلمَةٍ
فاغفر -عليك سلامُ الله- يا عُمَرُ
فعفا عنه الخليفةُ وصفحَ، وردّه إلى أولاده مع ثلاثة آلاف درهمٍ من بيت المال”!
فيما يحكي “البحتريُ” العربيّ المنتمي أيضاً إلى قبيلة طيء والقادمُ من “منبج” كيف تعلم من أستاذه أبو تمام، وأن شعره كان صافياً حلواً يصل إلى القلوب فسمّاهُ الأقدمون بـ “سلاسل الذهب” لأنه كان ينتقيه من أجود الكلام وأجمله، مثلما يقول:
أتاكَ الربيعُ الطلقُ يختالُ ضاحكاً
من الحُسنِ حتى كاد أن يتكلما
وقد نبّهَ النيروزُ في غلسِ الدجى
أوائلَ وردٍ كنَّ بالأمس نُوَّما
يفتّقها بردُ الندى… فكأنّهُ
يبثُّ حديثاً كان قبلُ مُكتَّما
ورقَّ نسيمُ الروضِ حتى حسِبتُهُ
يجيءُ بأنفاسِ الأحبةِ نُعَّمَا
وهناك في واحةِ الشعر الجميلة تلك يجولُ المتنبي والأخطل وأبو العلاء المعري وأبو فراس الحمداني والخنساءُ وطرفة بن العبد والمهلهل وامرؤُ القيس وعروة بن الورد وعنترة بن شداد وشعراء آخرون يحكون لنا وللأطفال حكاياتهم المليئة بالتشويق والمغامرات والمعارك وصليل السيوف وأحاديث الغزل ومقارعات الهجاء بين الشعراء أنفسهم وكلمات الفخر وتلك التي تستهزئُ بالخصوم وتلك التي تُعلي وتمدحُ وتصفُ الشجاعةَ وعفة النفس.
كما يحكي الشاعرُ عنترة بن شداد لأبطاله الصغار -في هذا الكتاب- كيفَ أن الكثير من القصص نسجها الناسُ عنه مليئة بالتهويل والمبالغات لكنها جعلت منه أسطورةً مليئةً بالحب والنبل أيضاً، ويهدي للأطفال مقطعاً من قصيدة يخاطب فيها ابنةَ عمّه مالك حبيبتَه “عبلة” فيقول:
أثني عليّ بما علمتِ، فإنني
سمحٌ مخالطتي إذا لم أُظلَمِ
فإذا ظُلمتُ فإن ظلمي باسلٌ
مُرٌّ مذاقتهُ كطعمِ العلقمِ
ولقد أبيتُ على الطوى وأظلُّهُ
حتى أنالَ به كريمَ المطعمِ
هلّا سألتِ الخيلَ يا ابنة مالكٍ
إن كنتِ جاهلةً بما لم تعلمِي
يُخبركِ مَن شهِدَ الوقيعةَ أنني
أغشى الوغى، وأعِفُّ عندَ المَغنَمِ
كتابُ الراحل سلمان العيسى “شعراؤنا يقدّمون أنفسهم للأطفال” كتابٌ رشيقٌ ممتعٌ يشبه قطرات ماء صافية يمكن للأطفال والكبار ارتشافَهُ بسلاسة.