ظهور بوادر انتهاء سيطرة الدولار والنفط… العصر الحديث للصناعة والنقد

تشرين – حيدرة سلامي:
حتى الآن يعتبر النفط المادة الصناعية الأكثر أهمية على مستوى العالم، وفي الوقت نفسه يحقق الدولار أيضاً، نسبة عمليات التبادل المالي الأكثر تأثيراً على مستوى العالم، ويعتبر المادة المالية الأكثر طلباً منذ معاهدة بريتون وودز والتي فرضت التعامل بالدولار عالمياً، كمقياس لمادة الذهب، وحتى صدور اتفاقيات جاميكا، التي عززت هذه الهيمنة المطلقة، وأضافت عليها بعضاً من طابع السوق الحر، بعد أن كان طابع احتكار السوق العالمية، واقعاً مفروضاً في بريتون وودز، فقد خففت اتفاقيات جامايكا من حدة هذا الطابع القاتم، وجعلته أكثر دبلوماسية للمتعاملين في الأسواق العالمية، وبناءً عليه سمي ارتباط البترول والدولار، بالـ”بترودولار”.

انتهاء عصر الهيمنة النفطية
يقف جيلنا المعاصر اليوم، أمام لحظات تحول محورية في تاريخ العصر الحديث، حيث نقترب من انتهاء حقبة صناعية دامت ما يزيد على قرابة قرنين من الزمن، ونشهد على انتهاء عهد اقتصادي دام ما يزيد على نصف قرن، فلقد انتهت للتو المفاعيل القانونية لاتفاقية البترودولار التي مضى عليها 50 عاماً بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. ويشير مصطلح “البترودولار” إلى اعتماد الدولار الأمريكي، باعتباره العملة الأساسية المستخدمة في معاملات النفط الخام في السوق العالمية.

يشير مصطلح “البترودولار” إلى اعتماد الدولار الأمريكي، باعتباره العملة الأساسية المستخدمة في معاملات النفط الخام في السوق العالمية

وتعود جذور هذه المعاهدة إلى سبعينيات القرن الماضي، والحقيقة هي أن هذه الاتفاقية لم تكن معاهدة اقتصادية بقدر ما كانت بروتوكولات يتم احترامها والتعامل بها بتحفظ بين الطرفين، حيث إن النفط فرض نفسه كسلعة أساسية، وأداة ضغط سياسية، حيث أنه صار جزءاً من حياة الشعوب، إلا أن الطابع القانوني لهذه الاتفاقية، لم يظهر للعيان حتى تاريخ يونيو/حزيران 1974، حيث أنشأت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية لجنة مشتركة للتعاون الاقتصادي لمساعدة المملكة على استثمار عائداتها النفطية في سندات الخزانة الأمريكية.

ماذا يعني انتهاء معاهدة البترودولار؟
يعني انتهاء اتفاقية البترودولار، أن الدول النفطية الكبرى في العالم، ستتحرر من النظام الأخضر، حيث ستتحرك لبيع النفط بعملات مختلفة، وليس فقط بالدولار، وسيتم إيداع أموال هذه الصفقات التجارية النفطية في البنوك، بهذه العملات المختلفة، ما يجيب عن سؤالنا، حيث إن العالم كان قائماً على تجارة البترول ضمن السوق العالمية الحرة، فحين انتهاء مفاعيل اتفاقية البترول دولار، سيعود النفط العالمي إلى هذه السوق الحرة مجدداً، وسيعود لكونه سلعة متوفرة تحت مبدأ العرض والطلب.

مع انتهاء مفاعيل اتفاقية البترودولار سيعود النفط العالمي إلى هذه السوق الحرة مجدداً وسيعود لكونه سلعة متوفرة تحت مبدأ العرض والطلب.

أي إن طابور الحصول على الدولار لشراء البترول، وأذونات البنوك الأمريكية في استبدال عملتها الوطنية بالعملات الواردة إلى خزانتها، بات أمراً من الماضي، وفرض رقابة غير مباشرة من الولايات المتحدة على واردات النفط التي تصل لهذه الدول، بات أمراً من الماضي فقد اتسعت رقعة العقوبات الأمريكية لتشمل أكثر من نصف مساحة الكرة الأرضية، وهذه الدول التي كانت تعاني من نقص إمدادات الطاقة إليها، صارت قادرة على مواءمة حجم شرائها للنفط مع حاجاتها الصناعية، لمعاملها وخطوط إنتاجها، ما يفتح الباب على مصراعيه أمام المنافسة التجارية والصناعية المتكافئة.

التحول في ديناميكيات القوة العالمية
رغم إن الدولار لا يزال العملة الأكثر هيمنة في احتياطيات النقد الأجنبي لدى البنوك المركزية في العالم، إلا أن حصته في هذه الاحتياطيات انخفضت من أكثر من 70 في المئة عام 2000 إلى نحو 55 في المئة في الربع الأخير من عام 2023، حسبما تظهر بيانات صندوق النقد الدولي. وبين الصندوق في تقرير له مؤخراً أن تراجع دور الدولار على مدى العقدين الماضيين لم يعوضه اليورو أو الين أو الجنيه الإسترليني. وأضاف أنه بدلاً من ذلك، زادت العملات الاحتياطية غير المألوفة، أي العملات المستقلة عن الاستعمال المالي المألوف في الحياة التجارية، كالدولار الأسترالي والدولار الكندي والوون الكوري وعملات روسيا والشمال.

حيث إن الدول بدأت تحتاط من الاعتماد على الدولار في خططها الاستراتيجية، وذلك نتيجة الشروط الجيوسياسية الشديدة التي يفرضها المركزي الأمريكي من جهة، وذلك من اعتماده مبدأ مكافحة غسيل الأموال في منع تصدير الأموال إلى بعض البلدان النائية، وغيره من عقوبات اقتصادية متشددة، ونتيجة لذلك فقد أوقفت الدول الكبرى تداولها في سوق البورصة العالمية (الفوركس)، ونذكر على ذلك قرار، البنك المركزي الروسي وبورصة موسكو اللذين أوقفا التداول بالدولار واليورو رداً على الجولة الأخيرة من عقوبات وزارة الخزانة الأمريكية ضد البنية التحتية المالية في روسيا. وحسب تصريح البنك المركزي لقناة “آر بي سي نيوز” الروسية، فإن اليوان الصيني قد أصبح العملة السائدة في بورصة موسكو، حيث أصبح يمثل 54 في المئة من تداولات العملات.

لا يزال الدولار العملة الأكثر هيمنة في احتياطيات النقد الأجنبي في العالم إلا أن حصته انخفضت من أكثر من 70% عام 2000 إلى نحو 55% في الربع الأخير من عام 2023

موقف البورصة العالمية
يمكننا اختصار التغيير الاستراتيجي في “أنفكاك” الدولار عن البترول، عن طريق التغيير الذي أصاب البورصة العالمية، في الأيام القليلة الفائتة، إذ يوجد في سوق الأوراق المالية، ثلاثة معايير عالمية لتداول أسهم المشتقات النفطية.
أولها معيار أوبك، منظمة الدول المصدرة للنفط Organization of the Petroleum Exporting Countries)‏ وتُختصر: أوبك (بالإنجليزية: OPEC)‏
و هي منظمة حكومية دولية مكونة من 13 دولة، تأسست في 1960 في بغداد من قبل الأعضاء الخمسة الأوائل (إيران والعراق والكويت والمملكة العربية السعودية وفنزويلا)، ويعتبر معيار أوبك أحد أهم المعايير القياسية في أداء أسهم النفط، حيث يمثل عادة على الكمية الأقل سعراً، والأكثر كمية من حيث المبيع، وفقاً لمنظمة أوبك، فإن 80.4% من احتياطيات البترول المؤكدة في العالم موجودة في الدول أعضائها.

بدأت الدول تحتاط من الاعتماد على الدولار في خططها الاستراتيجية نتيجة الشروط الجيوسياسية الشديدة التي يفرضها المركزي الأمريكي وغيره من عقوبات اقتصادية متشددة

والمعيار الثاني: هو خام برنت أو مزيج برنت (بالإنجليزية: Brent Crude)‏ وهو خام نفطي يستخدم كمعيار لتسعير ثلثي إنتاج النفط العالمي، خاصة في الأسواق الأوروبية والإفريقية، ويعتبر متوسط الجودة.
وأخيراً خامات النفط من خام غرب تكساس بالإنجليزية West Texas) Intermediate WTI)، وهي إحدى خامات النفط المصنفة بأنها عالية الجودة والمستخدمة كمعيار لتحديد أسعار النفط عالمياً.

وفي تحليل أسهم هذه السوق النفطية، فنحن نرى التأثر الكبير في انخفاض أسعار البرميل على المقاييس الثلاثة بمعدل ١ بالمئة، على مدى الأسابيع الماضية، منذ إعلان المملكة العربية السعودية إنهاء المعاهدة المشتركة.

انخفضت أسعار البرميل على المقاييس المعتمدة بمعدل 1% على مدى الأسابيع الماضية منذ إعلان المملكة العربية السعودية إنهاء المعاهدة المشتركة

أما عن التأثير العام على السوق الصناعية، فإن قيمة أسهم الشركات الصناعية بالبورصة العالمية تحافظ بشكل شبه ثابت على استقرارها، ما يمكن أن يكون الهدوء قبل العاصفة، فحينما تعتمد مقاييس ومؤشرات الأداء في الأسهم النفطية على الدولار لتحفظ استقرار سوقها، فإن هذه الشركات الصناعية الكبرى كـ”تيسلا” و “أبل” و “بي إم دابليو”، وغيرها.
تعتمد على الدولار أيضاً في تسعير قيمة أسهمها السوقية، إضافة إلى اعتمادها على النفط بشكل أساسي في تحريك القوة الصناعية لمعاملها وخطوط إنتاجها.
وهي الآن تقع بين سندان انفكاك النفط عن القاعدة الأساسية في تغذية مؤسساتها الصناعية، وبين مطرقة هبوط الدولار.
فرغم إن هبوط أسعار الدولار يفترض أن يكون ذا تأثير جيد على واردات هذه الشركات، إلا أن سياسة التحوط التي تفرضها القوة السياسية حول الدولار، قد تكون حائلاً دون السماح لهذه الشركات بالدخول ضمن منافسة الأسواق الحرة،
فهي لا تزال مرتبطة بالدولار في عرض أسهمها ولا تستطيع بناءً عليه، أن تستثمر في الأسهم النفطية كغيرها من المساهمين، كما كانت تفعل سابقاً حين كانت تلك الأسهم جزءاً من القاعدة المالية الثابتة للسوق.
ما يثبت وجهة النظر التي كانت سائدة بأن سوق الأسهم العالمية, wall street لم تكن سوقاً عالمية بالمعنى الفعلي، بل كانت سوقاً غربية.
أما الحلول المتاحة ضمن الوقت الحالي ، فتتمثل ببعض المبادرات الاقتصادية التي تحاول كبح جماح هذا التغيير المفاجئ.

صعود اليوان
يمثل ارتفاع اليوان تحولاً في المشهد المالي العالمي نحو نظام متعدد الأقطاب، ما يشكل تحدياً للهيمنة التاريخية للعملات الغربية والأسواق المالية. استمرت حصة اليوان كعملة تسوية تجارية عالمية في النمو، على الرغم من تقلص حصيلة التجارة الإجمالية وسط ضعف صادرات الصين إلى الدول الغربية.
ورغم ذلك، فإن اليوان الصيني اليوم، هو رابع أكثر العملات تداولاً، بعد أن تجاوز الين الياباني في العام الماضي، وفقاً لبيانات من سويفت (سويفت هو النظام البنكي المعتمد في حساب وتنظيم مدخلات ومخرجات الدولار حول العالم).
وتفتح الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، أسواقها المالية تدريجياً أمام العملات الأجنبية، أي أنها تفتح باب التداول كسوق فوريكس (سوق مضاربة العملات)، لكنها لا تزال تحتفظ ببعض الضوابط على حركة الأموال داخل وخارج البلاد. في الوقت الذي تتطلع فيه إلى دفع ثمن النفط بعملتها الخاصة، من أجل تقليل ضغوط ميزان المدفوعات.

إطلاق البدائل لنظام النقد الأخضر
ونتيجة للتوتر المستمر لحالة الدولار، والذي بات عليها منذ مطلع عام 2019، فقد ظهرت اتجاهات اقتصادية جديدة، أحدها كان نظام mBridge ، وهو جهد تعاوني بين العديد من البنوك المركزية لتطوير نظام جديد للمدفوعات عبر الحدود باستخدام العملات الرقمية للبنك المركزي.

حالياً تقع الشركات الصناعية بين سندان انفكاك النفط عن القاعدة الأساسية في تغذية مؤسساتها الصناعية وبين مطرقة هبوط الدولار

تم إطلاقه في عام 2021 بين البنوك المركزية للصين وهونج كونج وتايلاند والإمارات العربية المتحدة.
بالإضافة إلى، 27 جهة رسمية أخرى، بما في ذلك صندوق النقد الدولي (IMF)، والبنك الدولي، والبنوك المركزية لدول مثل النرويج، وكوريا الجنوبية، وتركيا.
وتعتبر هذه التجربة أحد تطبيقات، سلاسل القيمة لتي يتطلع العالم إلى تطبيقها، حيث إن هذه التجربة تقدم نموذجاً عالي الشفافية في الأداء، يمكن أن تعمل عليه الجهات الرسمية والحكومية التي تتطلع مستقبلاً إلى تبني العملات الرقمية للبنوك المركزية، والابتعاد عن شكل النظام النقدي التقليدي.
ورغم التغييرات الجذرية التي يتحضر العالم لها، إلا أن الأهمية الاقتصادية للنفط، وكونه أحد العناصر الأساسية في حياة الفرد، هي ليست هناك موضع الشك الأكثر اضطراباً، بل إن التحول الجذري الذي يدعو إلى القلق الفعلي، هو تراجع قوة عملة الدولار وتهديد مكانتها كالقوة الشرائية الأكثر استخداماً على مستوى العالم فهل يعود العالم الى نموذج السوق الحرة، قبل أن يظهر الدولار كعملة موحدة، أم إن عهد النفط سوف يمضي قبل نهاية النظام المالي القائم، فحين أن المحللين الاقتصاديين والخبراء الجيولوجيين، كانوا يؤكدون على ربط أمد حياة الدولار والنفط، إلى أمد نضوب النفط في العالم، في عام 2050، ولكن هذا الانفصال السريع وقبل بوادر نهاية العصر الصناعي للذهب الأسود، هو مؤشر إلى أن العمر الاقتصادي للعملة الخضراء، قد يكون أقل مما تبقى للعهد الصناعي للنفط.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار