آليات إصلاح مشاكل التركيز في عالم مُشتِّت للانتباه
تشرين- بديع صنيج:
يشرح المؤلفان “كريس جريفثس” و”كاراغ ميدليكوت” في كتابهما الجديد “إصلاح التركيز.. إيجاد الوضوح والإبداع والمرونة في عالم مربك” كيفية إعادة تدريب تركيزك في عالم مشتت للانتباه.. يشعر ما يقرب من ثلاثة أرباعنا بتوتر شديد لدرجة أننا أصبحنا نشعر بالإرهاق أو عدم القدرة على التكيف في عالم مليء بالمشتتات والإشعارات، حيث تبدو وتيرة الحياة في كثير من الأحيان وكأنها آلة جري سريعة، يجد الكثير منا أنفسهم محاصرين في هذه الدورة من الانشغال وضبابية الدماغ.. ولكن هل هناك مخرج من هذا المأزق؟
المؤلفان جريفثس وميدليكوت يعتقدان ذلك ويشرحان في كتابهما كيفية إعادة تعلم فن التركيز، ويشيران إلى أنه منذ اللحظة الأولى التي تستيقظ فيها، كم من الوقت يمر قبل أن تلتقط هاتفك؟ بالنسبة للعديد منا، فإن الإجابة هي مسألة ثوانٍ، خاصة وأن العديد منا يستخدمونها كمنبه. ثم من هذه النقطة فصاعداً، يتميز يومنا بالوميض المستمر ورنين الإشعارات التكنولوجية.. سواء كانت رسائل من محادثات جماعية أو رسائل بريد إلكتروني في العمل، أصبحت حياتنا تُدار وتتصل بشكل متزايد من خلال أجهزتنا. بالطبع، من الناحية النظرية، من المفترض أن يجعل هذا حياتنا أسهل لكن كما هو الحال مع كل شيء، هناك جانب سلبي لهذا الاتصال المستمر. وفي هذه الحالة، يتلخص الأمر في ظهور ظاهرة تُعرف باسم “الإجهاد التكنولوجي” والتي تم الترويج لها لأول مرة من عالم النفس كريج برود في ثمانينيات القرن العشرين.
بطبيعة الحال، لم يكن بوسع برود أن يتخيل مدى انتشار هذه الظاهرة ومدى إلحاحها عندما كتب عنها لأول مرة في ذلك الوقت، وبعد مرور أربعة عقود من الزمن، أصبح الكثير منا مدركين تماماً لهذا الشعور.
إن جودة تركيزنا تتدهور بانتظام كنتيجة مباشرة لاستخدامنا للأجهزة، فقد نجد أن انتباهنا يتشتت بسهولة، وبمجرد أن نبتعد عن مهمة ما نجد صعوبة في إعادة التركيز مرة أخرى. قد يكون من المغري إدارة هذه المشكلة باستخدام المزيد من التكنولوجيا، على سبيل المثال عن طريق تثبيت المزيد من التطبيقات لمساعدتنا على البقاء على اطلاع بكل شيء. ولكن مثل الكثير من الزيت في الآلة، فإن هذا قد يؤدي في الواقع إلى تفاقم المشكلة، ما يترك التروس تدور بمعدل محموم وغير مستدام.
ولكن من المؤكد أنه من الممكن استعادة السيطرة على تركيزك في عالم يشتت انتباهك. ورغم أن الأمر قد يبدو متناقضاً في البداية، فإنك ستجد في الواقع أنك تحقق المزيد من خلال قضاء الوقت في القيام بأقل قدر من العمل.
لقد شكل الكثير منا عادة سيئة تتمثل في الرد على الرسائل ورسائل البريد الإلكتروني فور وصولها. في حين أن هذا قد يبدو وكأنه خطوة مثمرة من الناحية النظرية لأنه يمنعهم من التراكم، فإنه يصبح في الواقع مصدرا دائما للإلهاء. يستغرق الشخص العادي 23 دقيقة لإعادة التركيز بعد تشتيت انتباهه، ما يؤدي إلى إضاعة الكثير من الوقت إذا كنت ترسل الرسائل باستمرار طوال اليوم. بدلاً من ذلك، يمكنك توفير عدة ساعات من خلال تخصيص جزء من الوقت كل يوم لمتابعة رسائل البريد الإلكتروني والرسائل، اعتماداً على العدد الذي تتلقاه يومياً، قد يتراوح هذا من 20 دقيقة إلى ساعة.
لكن القيام بذلك بانتظام يساعد في احتواء هجمة التشتيت ويساعد أيضاً في إدارة توقعات أولئك الذين تراسلهم أو تتحدث إليهم بانتظام لأنهم سيتوقفون عن توقع استجابة فورية.
في النهاية، ستجد أنك أصبحت أكثر إنتاجية بشكل ملحوظ إذا قضيت وقتاً أقل في استخدام بريدك الإلكتروني أو تطبيق الرسائل.
قد يبدو الأمر بسيطاً إلى حد ما، لكن الخروج مفيد حقاً لعقلك. سواء كان ذلك للمشي على طول النهر أو للركض في الحديقة، فإن التأثير المشترك للنشاط وسرقة لحظة في الطبيعة يشبه الضغط على زر إعادة ضبط الجهاز العصبي. غالباً ما يقاوم الناس هذا الاقتراح لأن فكرة قضاء بعض الوقت في ظل تراكم المهام قد يكون أمراً شاقاً، ومع ذلك، فالحقيقة هي أنك لا تعمل بأفضل ما لديك عندما تشعر بالإرهاق. ففي نهاية المطاف، لا يهم المدة التي تقضيها في قطع الشجرة إذا كان فأسك غير حاد، فإن الجهد الذي تبذله لن يتطابق بالضرورة مع ما تحققه بالفعل. ومع ذلك، فإن فوائد قضاء الوقت في الطبيعة لا جدال فيها، حيث تربط الأبحاث بين التعرض للبيئات الطبيعية وتحسين الذاكرة العاملة، والمرونة الإدراكية، والتحكم في الانتباه. قد يبدو الأمر أشبه بالملل، لكن السماح لنفسك بالابتعاد عن عملك لفترة قصيرة قد يكون الحل الأمثل لإنجاز المزيد من المهام. في هذه الأيام، أصبح الملل عملياً من بقايا الماضي. سواء كنت تقف في طابور ضمن متجر، أو تستقل القطار للعمل، أو حتى تطبخ عشاءك فحسب، فإن خيار إشغال نفسك موجود دائماً.
اليوم، الوقت ليس عائقاً سواء كان دقيقتين أو ساعتين إضافيتين، هناك دائماً خيار ترفيهي لملء كل لحظة فراغ، سواء كان ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي أو لحضور البودكاست المفضل لديك.
في حين أن هذا بالتأكيد ليس شيئاً سيئاً في حد ذاته، إلا أننا نترك لأنفسنا “وقتاً خاملاً” أقل من أي وقت مضى، والمشكلة في ذلك هي أنه على الرغم من أننا نشعر بالاسترخاء عند مشاهدة برنامجنا المفضل أو التحقق من ما يحدث على إنستغرام، إلا أننا في الواقع ما زلنا نمارس تركيزنا للحفاظ على انتباهنا بما هو أمامنا. قد لا يبدو هذا مشكلة في حد ذاته، لكن أحلام اليقظة هي في الواقع وظيفة عصبية حاسمة، والتي تم ربطها بمجموعة كاملة من الفوائد المرتبطة بها مثل زيادة الإبداع ومهارات حل المشكلات وتقليل التوتر. للوصول إلى هذه الحالة، نحتاج إلى السماح لعقولنا بأن تصبح خاملة حتى تعود إلى حالتها الطبيعية.
ضع في اعتبارك أيضاً أن فترات الراحة المنتظمة تم ربطها مراراً وتكراراً بتحسين الإنتاجية (وعلى العكس من ذلك، أظهرت الأبحاث التي أجرتها شركة مايكروسوفت أن الاجتماعات المتتالية تسبب تراكم التوتر في الدماغ). اسمح لنفسك بالجمع بين الاثنين عن طريق اقتطاع أجزاء صغيرة من اليوم تسمح فيها لنفسك عمداً باستراحة لتستمتع بأحلام اليقظة. إنه شيء يقال إن رواد الأعمال بيل جيتس وريتشارد برانسون يستفيدان منه.
يمكنك تجربة عدد من الأساليب لتحفيز حالة أحلام اليقظة هذه. يمكن أن يكون ذلك بمثابة الخربشة، أو القيام ببعض الأعمال التي تتطلب القليل من التفكير، مثل غسل الأواني أو تجفيفها، أو ببساطة امنح نفسك الإذن بالتحديق خارج النافذة.
قد تتفاجأ عندما تجد أن عدم القيام بأي شيء في هذه الفترة يزيد بشكل كبير من فعاليتك الإجمالية عند العودة إلى المهمة، ستجد أنك تجني مكافآت كبيرة لكل من إنتاجيتك ورفاهيتك العامة أيضاً.