الوفاء طبيعة وليس تربية

تشرين- ادريس هاني:
ثُمَّ دَعْنِي أُساعدك أكثر لفهم ما بدا لي واضحاً وضوح الشمس في رابعة النّهار، وحيث يتعذر الإمساك بهذه الحقيقة إلاّ بعد خبرة طويلة على طريق كفاح العُدوان، ألا وهي قضية الوفاء، فهل يا ترى تراك تنظر إلى الوفاء كحصيلة تربية وتكوين؟ كلاّ، إنّ الوفاء مرتبط بالطبيعة البشرية، وهو ليس قضية أخلاقية، فمن لم تسعفه طبيعته للوفاء، يتعذّر عليه استدراك ذلك مهما حاول، وانظر حتى ترى أنّ الكلب يروّض على كلّ شيء ما عدا الوفاء، وانظر كيف أن ترويض الكلب يقوم على إثارة طبيعة الوفاء، فالوفاء طبيعة في النفوس الأليفة، وهو قلّما يوجد في النفوس المتوحِّشة.
إنّ الوفاء غريزة تضمن قِيَام القيم الأخلاقية، وهي من يجعل التّخلّق ممكناً، فلا يعقل أن توجد أخلاق من دون وفاء، وليس الوفاء معلولاً للأخلاق بل هو أساسها الذي يمكنها من القيام، فمن لا وفاء له لن يصدق لا في صغيرة ولا في كبيرة، ومن لا وفاء له سيكون رهينة لنوازع العدوان والحسد والغدر.. إنّ المروءة لا تستقيم من دون وفاء طبيعي، وإنّما وُجدت القوانين لحماية الاجتماع من الطبائع غير الوفيّة.
الأخطاء الناجمة عن سائر الغرائز الأخرى هي قابلة للإصلاح إلاّ الأخطاء الناجمة عن قلّة الوفاء وعدمه.. إنّ الكلب إن نُزع منه الوفاء فقدَ ميزته الأليفة بل ماهيته، فكيف بالبشر؟
أي قيمة للوفاء حتى في مضمار الأنسنة إن كان الطبع المحرك للمغالطة هو التفاف مبيت على طبيعة الوفاء، وكأنّ الأنسنة تلويحة أيديولوجية.. إنّ الوفاء لا يتحقق بالتربية، بل هو مركوز في بعض الطبائع، والباقي تُكمله القوانين المدنية.
إنّ الحديث عن الأنسنة لما يتحوّل إلى أيديولوجيا محتالة وزائفة، يوحي باختلال كبير في تصور الإنسان، وكأنّ الأنسنة مُلاوغة وليست طبيعة، الكفاح اليوم مطلوب لحماية الطبائع الخيرة من الطبائع الشريرة في اجتماع متنوع، ولكي نحلّ معضلة الطبيعة البشرية، علينا الجمع بين روسو وهوبز، أي بدل النقاش في علاقة العلة بالمعلول، بين الاجتماع والحرب، وعلينا الحديث عن تنوع الطبائع، وأنّ العقد الاجتماعي والقوانين المدنية، إنّما هي لحماية الطبيعة الخيرة من انقضاض الطبيعة الشريرة.. إنّ الأنسنة فيما يبدو لي هي موضوع بات مفرغاً من محتواه، وإنّ إنسان شوبنهور كما وصفه نيتشه، هو أكثر واقعية من إنسان روسو.. إنّ ذوي الطبائع الشريرة غالباً ما ينازعون ذوي الطبائع الخيرة بالأنسنة، ويجب أن نتأمّل ما آل إليه هذا الوضع الملتبس، من أجل قيام مفهمة أكثر وفاء للوفاء.. إن التصعيد في هذه الديماغوجية من شأنه التشويش على أهل الوفاء الذين تتنزّل الإنسانية في سلوكهم منزلة الطبيعة البديهية، فهي قضية عملية وليست نظرية.
لا أدري.. لم يشعرني خطاب الأنسنة بالقلق، لأنّني لا أشعر بالارتياح، وقد علّمتني التجربة المريرة أن أكثر من نهضوا بهذا الشعار – وليس كلّهم – ليسوا أوفياء له عند الممارسة، إنّني أمقته كما يمقته نيتشه، لأنّني أعتبر الأنسنة مرتهنة للوفاء، والوفاء طبيعة إن وُجدت لا حاجة معها إلى أي دعوة ديماغوجية، أنا إنسان أشعر بالوفاء من دون حاجة إلى ديماغوجية أنسناوية، وكذا الجماهير الطيبة ليست مشكلتها في الوفاء في الأعم الأغلب، بل في تدبير حمايتها من الأشرار، لا يحتاج ذوو الوفاء لهذا التذكير المُلوّن لأنسنة سبق وصفناها بـ«النسنسة»، ولا خوف على الإنسانية من الإنسان، الأنسنة بهذا المعنى وبما آلت إليه في تطبيقاتها الهجينة، هي التفاف على طبيعة الوفاء، التي بها قِوَام الأنوسة الرّاقية.

كاتب من المغرب العربي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار