القطاع العام من منظور التطوير الإداري.. رسم خطة إصلاحية بعوامل جذب إضافية لرأس المال البشري
تشرين – بارعة جمعة:
تتعالى الأصوات هنا وهناك مُطالبةً بالنهوض في قطاعٍ حمل ما بوسعه من تبعات الترهل الحاصلة بين تفاصيله، بدءاً من تراجع العمل من قبل المنتسبين إليه وتدهور أحوالهم المعيشية وانتهاء بالتسرب الكبير من كوادره سواءً للهجرة أو العمل في قطاعات أخرى أكثر جدوى اقتصادياً، إلّا أن الكثير يُغفل النقطة الجوهرية التي لا بدّ من الانطلاق منها وهي الفرد الذي يشكل عاملاً أساسياً للنهوض بأي قطاع سواءً كان عاماً أم خاصاً، من خلال توفير بيئة عمل جاذبة ترتقي لمستوى الكفاءات الموجودة والراغبة بالالتحاق به والعمل لتطويره، إلى جانب استقطاب الخريجين ممن مازالوا يبحثون عن فرص مناسبة لهم.. وأمام كل هذه المعطيات يتساءل الكثير حول ماهية العمل الواجب اتباعها لتوفير ذلك.. بعيداً عن سياسات أثبتت عدم صحتها في كثير من الأحيان، بل وأدت بالقطاع العام لما هو عليه الآن، ليبقى للخبراء نظرتهم الخاصة أيضاً.
مبادرات إصلاحية
الوفرة الكبيرة للإصلاح الصغير والكبير يمكن أن تسبب خطر عدم العمل أو الفشل في غياب إستراتيجية إصلاح فعالة مرحلية واضحة، وفي مناقشة تحليل المشروع الوطني للإصلاح للقطاعات الاقتصادية، فإن قلقنا يتجاوز مسألة ما إذا كانت خطوات الإصلاح المحددة تبدو سليمة من الناحية الاقتصادية أو من الناحية المالية، أو متسلسلة على نحو سليم، وما إذا كانت منسجمة فيما بينها أو كاملة أو واقعية، رؤية لغزارة المبادرات المقدمة قدمها الخبير الاستشاري واختصاصي التدريب والتطوير في سورية الدكتور عبد الرحمن تيشوري ضمن حديثه مع “تشرين”، حول الخطة الجديدة الوطنية الإدارية، التي شرحها السيد الرئيس بشار الأسد في مجلس الوزراء، التي تتضمن رؤى معلنة وزخماً مبرمجاً يبلغ حدّ إعادة تعريف أساسية لدور الدولة فيما يتعلق بالاقتصاد والإدارة.
لكن الجبال لا تتحرك وهي الوحيدة التي لا تلتقي وفق رؤية د. تيشوري، وهذا يركز على فكرةٍ مفادها أن الناس (وفي حالتنا هذه الموظفون والمواطنون والمديرون ) يجب أن يكونوا في بؤرة الاهتمام، فمن خلال نشاطهم وحركتهم، يمثلون قاطرة الإصلاح، وبالتالي يجب اعتبار الإدارة العامة حصيلةً للأشخاص الذين هم فيها والذين يجعلونها تعمل برأيه، وذلك لأن الناس (رجالاً ونساءً مديرين وموظفين مدنيين وعسكريين )، في نهاية المطاف، هم الذين يعملون وينفذون ويقدمون، ولا شك في أنهم هم أيضاً الذين يقاومون ويمانعون بطريقةٍ قد لا تكون منطقيةً أو منسجمةً في كثيرٍ من الأحوال، طارحاً تساؤله بالقول.. ماذا بعد برامج الجدارة القيادية.. أين الخريجون من جامعاتنا؟؟ وأين هم خريجو المعهد الوطني للإدارة ممن يحتاجهم الاقتصاد السوري في هذا الظرف العصيب؟
توصيف المشكلة
التشخيص الصحيح نصف العلاج”” مقولةٌ تحمل في طياتها نقطة البداية للعمل وفق منظور التحديد الدقيق لمكامن الخطأ، ومن ثم إن تحديد المشكلات الإدارية بدقة في سورية الجديدة المتجددة ضرورة أساسية برأي د. تيشوري، لكنها خطوة غير كافية لتحقيق النجاح إذا لم ننفذ وننتقي الأجدر للوزارات والإدارات والشركات والمؤسسات، وفي حال تم توجيه التحضيرات من أجل أي عملية تغيير وإصلاح لا بدّ أن تتم عن طريق خمسة أسئلة عملية جوهرية، تعتمد على الحقائق إلى حدّ كبير وتكون معنية بخلق رؤية جديدة، كالرؤية المثبتة في القانون 28 الخاص بالإصلاح الإداري، وهي كالتالي: تقييم الوضع: أين نحن الآن؟.. المقارنة: كيف نقارن؟.. الهدف: أين نود أن نكون؟.. وضع الإستراتيجية: كيف نصل إلى هناك؟.. البرمجة: ما هي الخطوات التالية؟.
يجري التقييم وفق الأبعاد المهمة لأي إدارة عامة وبهذه الطريقة تغطية تشخيصية للمجالات الثلاثة من الإصلاح التي تعزز بعضها البعض برأي الدكتور تيشوري، والتي أظهرت التجارب ضرورتها لتقديم نتائج مستدامة، مثل البناء التنظيمي واستثمار برامج الجدارة القيادية وخريجي المعهد الوطني للإدارة، وجودة الموارد البشرية، والبيئة المؤسساتية الواسعة.
هو مشروع وطني، إلّا أنه بقي نظرياً وبعض الوزارات لم تفعل شيئًا ولم نستفد من خريجي المعهد الوطني للإدارة. وهذا أكثر ما يكون وضوحاً في الإشارات الكثيرة إلى الحاجة للإصلاحات الإدارية الموجودة في فصول القانون 28 الخاص بالإصلاح ومشروع الإصلاح (والذي يتقدم على الفصل الخاص بإصلاح الإدارة العامة) وفق توصيف د. تيشوري للواقع، مؤكداً في الوقت ذاته أن “الإصلاح الاقتصادي” ضرورة شاملة لا ترتبط بهذا القطاع أو ذاك، فإن الإصلاح الإداري مشروع لا يقل عنه اتساعاً وشمولاً.
د. تيشوري: الإصلاح الإداري ضرورة .. وإن يكن غير كافٍ لإحداث التغيرات المرغوبة في الاقتصاد
متطلبات الإصلاح
الإصلاح الإداري ضرورة وإن تكن غير كافية لإحداث التغيرات المرغوبة في الاقتصاد برأي تيشوري، كما أنها قابلة للتبرير لأسباب مختلفة، كإحراز العدالة مثلاً وزيادة الأجور ونظم انتقاء جديدة للمديرين، أو التوصل إلى الفعالية والشفافية وحسن الاستجابة لحاجات المواطنين.
ولهذا السبب، فإن مناقشة أولوية إستراتيجيات إصلاح القطاع العام لن تشير مجدداً إلى كيفية دعم الإصلاح الإداري أو تسهيله للتغيرات في المجالات الاقتصادية مهما يكن ذلك مهماً، مُقدماً خطته الإصلاحية للقطاع العام والتي شملت:
إحداث بنية تنظيمية للإصلاح – هيئة والأفضل أن وزارة سيادية كاملة، وإعادة النظر بسياسات الإنفاق العام، إلى جانب دعم التوجه نحو ترشيد الإنفاق العام عن طريق تشكيل فريق عالي المستوى من حيث الخبرات والتأهيل العلمي، لإعادة النظر بالسياسات المتبعة في تحديد أولويات الإنفاق، والعمل على تحسين كفاءة وفاعلية أداء وإنتاجية الأجهزة العامة وتحسين وتطوير الخدمات التي تقدمها للمستفيدين في كمها ونوعها وتوقيتها وأساليب مناولتها، بالإضافة لتحديد ما ينبغي وما لا ينبغي أن تقوم به الدولة من نشاطات ، وطرح ما لا ينبغي أن تقوم به الدولة للاستثمار الخاص بهدف تحسين الخدمات، وخفض تكاليف ومديونية القطاع العام ، وزيادة مستوى الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ودعم التوجه نحو تقييم أداء البرامج والمشروعات العامة عن طريق أجهزة الرقابة المالية ، للوصول إلى تحقيق ما يعرف بالتقييم المؤسسي، ووضع مقاييس عملية للإنتاجية وخطط تنفيذية يشارك الموظفون في تصميمها إلى جانب القيادات والمشرفين ، واتخاذها أساساً للمساءلة والمكافأة والترقّي في السلم الوظيفي.
تفعيل دراسات واستشارات تسهيل إجراءات العمل في الأجهزة العامة والاستمرار في تكرارها، وإشراك الموظفين في صنع قرارات وبناء خطط هذه الدراسات والاستشارات، والتوجه نحو تحديث الأنظمة والقوانين الإدارية والمالية والتأكد من تطبيق هذه الأنظمة والقوانين بشكل عام، وإعادة تقييم تجربة المعهد الوطني للإدارة ، إلى جانب الاستفادة من الخريجين في شركات القطاع العام والجهات العامة.
د. تيشوري: الاتجاهات المعاصرة في الفكر الإداري الحكومي تقوم على تطوير الادارات إمكاناتها وهياكلها وأدواتها وأساليبها..
تسرع واستعجال
لن نعود إلى الوراء ونتحدث عن مشاكل الإدارة وسلبيات المرحلة الماضية، إلّا أنه لا بدّ من الإضاءة على ثغرة حكومية باتت واضحة في التسرع في اقتراح الإصلاحات، من دون الأخذ بعين الاعتبار المشاكل المؤسسية الموجودة في سورية، والتي تعوق تنفيذ الإصلاحات بصفة يومية برأي الدكتور عبد الرحمن تيشوري، وترك السياسات تخضع لسيطرة الفساد وآليات المؤسسية السيئة والأنظمة القانونية المبهمة وآليات تنفيذ القوانين الضعيفة ونقص الشفافية في الإدارة ، فالاتجاهات المعاصرة في الفكر الإداري الحكومي تقوم على قدرة الحكومة على تطوير إمكاناتها وهياكلها وأدواتها وأساليبها، بعيداً عن طريقة المعالجات الإجرائية، وبصفتها تُعنى بمسائل التحفيز وإشراك كافة القوى والفعاليات الوطنية في التنفيذ، وتحتضن وتطور آليات المنافسة في أوساط كافة القطاعات بعيداً عن الاحتكار، كما تسعى إلى تحقيق المزيد من الإيرادات وتفعيل استخدامها وتقليص الهدر في النفقات.
خبير إداري: ما نرجوه اليوم أن تستفيد الحكومة من أصحاب الكفاءات العالية، فهم الأكثر إدراكاً ومعرفةً
ويضيف خبير الإدارة والتدريب الدكتور عبد الرحمن تيشوري واصفاً ما يأمله خبراء الإدارة من تقديم مقترحاتهم وخططهم قائلاً: “ما نرجوه اليوم هو أن يتحقق لدينا في سورية الإصلاح المستمر والإدارة الرشيدة، وأن تستفيد الحكومة من أصحاب الكفاءات العالية، فهم الأكثر إدراكاً ومعرفةً ويعملون لتحقيق الإدارة الرشيدة، وعلى وجه الخصوص حاملي قيم الإدارة الرشيدة – خريجي المعهد الوطني للإدارة العامة-، وهنا نؤكد مرة ثانية على إعادة تقييم تجربة المعهد لإعادة الأمور إلى نصابها، كما نؤكد على دعم وزارة الإصلاح والإدارة الرشيدة، لان الزمن لا يتنظر ولا يرحم أحدًا، والعالم يركض ونحن نراوح في المكان ونتخلف ونجوع وكل المؤشرات هي التي تقول ذلك وليس نحن”.
نعم .. نحن بحاجة ماسة إلى مواجهة شجاعة مع أوضاعنا في الداخل، حيث تجمع العامة على أنه ليس بأفضل حال، نحن بحاجة لسؤال الحكومة عن كيفية مواجهة الفساد الذي تحول – كما أشرنا – إلى وباء، وبات يهدد كيان البلاد والمستقبل.