في التربية السياسية.. في طبائع السياسيين
تشرين- ادريس هاني:
انبعث علم التدبير من داخل ميراث النصائح، التي كانت أقرب إلى حِكَم منها إلى قواعد علمية حاسمة، من التبر المسبوك لأبي حامد الغزالي والأحكام السلطانية للماوردي إلى بدائع السُّلك لابن الأزرق، وصولاً إلى ميكيافيل في الأمير. هل يا ترى الحِكَم السياسية هي تأريخ وآداب أم هي قواعد لا يقوم اجتماع سياسي إلاّ بها، وبها فقط.
علم السياسة لا يعصم حامله من الخطأ لجهتين: الأولى كونه معرفة بمفاهيم السياسة وليس تربية على فضيلتها بالضرورة، ثانيا: لأنّ العلوم جميعاً بما فيها الفقه، لا تغيّر طبائع حاملها، فللتربية مسلك خاص لا دخل للصنائع فيه، بل قد يصبح علم السياسي خطراً إذا كان حامله من فئة الأرانب البرية المُؤَنْسنة.
يمكن للسياسة أن تمارس وفق غريزة خاصة، لكائن يمكن تعريفه بحيوان محتال، أي حيوان واعٍ بخططه، وتلك هي حقّا مشكلة السياسة كممارسة وكاستثمار في مفاهيمها، ليس فقط بالمعنى الذي يفيده الـ (concept) بل بمعنى المعنى، والمفاهيم المتوارية خلف منطوق الخطاب.
بين السياسة كفضيلة والسياسة كذريعة، مسافة طبعين بشريين، أحدهما طبع راسخ في المروءة والرّوية، والآخر طبع راسخ في التّآمر والنّط، السياسة كفضيلة كرم وشجاعة ومسؤولية وصدق، بينما السياسة كذريعة جبن وبخل وتربُّص، ينبت الاستبداد في الطبائع قبل أن يتمأسس، فطبائع الاستبداد نابعة من غريزة السّطو والحِرص والعدوان، بينما طبائع العدل نابعة من طَيْبِ الأرومة وسموّ الذّوق، إنّ السياسة تابعة للطبائع، فإمّا تسامحٌ رضيٌّ وإمّا عدوان مقيت.
ويبدو أن نظرية المؤامرة مجرد مفهوم مبهم، بينما الأمر يتعلق بغريزة المؤامرة، لكن في هذا الإطار وجب التمييز بين نزعة إلى التفسير التآمري نابعة من خبرة نابعة بدورها من الحرص على الدفاع عن منظومة القيم وانتصاراً للحقيقة، وهناك ميل لهذا التفسير لا يقدحه تفكير متوازن، بل رغبة في العدوان، نابعة من شرّ مستطير تقدحه النّفس الأمّارة بالسّوء. إنّ فقدان الرّوية يجعل الأشرار يقيمون محاكم تفتيش، ويصدرون ما أوحى به شيطان النّفس الأمارة بالسوء، ثمة فرق بين حدس نقيّ وبُهتان تقدحه النيات السِّيِّئة، فالأوّل يستدعي البرهان الأصيل والثاني يستدعي الظّن العام، الذي لا يغني عن الحق شيئاً، ولقد تاهت الأمم بين الطريقين: طريق الحدس وطريق الافتئات.
هناك إذاً معضلة وجب الوقوف عندها بما يكفي من التّأمّل:
في المرتبة الأولى، لا حقّ في ممارسة السياسة من دون علم السياسة.
في المرتبة الثانية، لا حقّ في ممارسة السياسة بعلم السياسة من دون تربية سياسية، والتربية السياسية موضوعها معرفة فضيلة السياسة وتطبيقها، ومعرفة من هو مؤهّل للممارسة السياسية وتدبير نوازلها.
لقد وضع القدامى الشجاعة شرطاً في الممارسة السياسية، فما خرب العمران إلاّ الجبناء، الذين يختبؤون خلف أصابعهم حين الخُطوب، ويزرعون ألغام الحقد. الشّجاعة قيمة تنبثق منها جملة من القيم الأخرى، كالإنصاف، الكرم، الصدق، التّسامج.. فالعناد في الحقّ قيمة، والعناد في الباطل مصيبة.
كاتب من المغرب العربي