استنطاق اللغة الاستبصارية الموحية في (كماء العنب في آب العناقيد) للشاعر علي الراعي

تشرين- هويدا محمد مصطفى:

كما للقصيدة شعريتها كذلك للعنوان شعريته، ثمة علاقة وطيدة بين القصيدة والعنوان، فهي علاقة الجزء بالكل، وعلاقة الباب بفناء الدار ، إنه نص مواز لمتن القصيدة حيث يشكّل وحدة متجانسة الدلالات مع وحدة النص، وهو خطاب مستقل من خطاب القصيدة.. لكن مدار الدلالة وبؤرة المعنى واحد، فالصورة الشعرية تجسّد لنا المشهد حتى نكاد نراه أمام أعيننا؛ نورسٌ يطير.. هكذا قرأت البداية في المجموعة الشعرية (كماء العنب في آب العناقيد) الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب.. نصوصٌ تفيض بالحيوية والانفعال الهادئ على الرغم من استعلائية اللغة ورائحة المواجع التي ترتديك عبر اهتزازات اللغة أيضاً، وهذا ما عكس العنوان الذي أُعدّه العتبة الأولى المرتبطة بمخيلة مشبعة بالرؤى، وصراعات تغوص في أسئلة كثيرة لتبدأ الحكايات عبر تدفق الصور ورشاقتها، وعبر عاطفة متوهجة وفيض لغوي رسمه الشاعر بطريقة الفن التشكيلي وواقع ملموس ليقول في (الحكاية الثامنة):
علّموهم،
في ذلك المكان والزمان،
من “كان يا مكان”
وأقنعوهم ؛
أن “الخبز الحاف يُعرِّض الكتاف”،
ولسنين طويلة وأكتاف القوم في اضمحلال..”
تساؤل مطرد يتعثر في شهقة الانتحاب، ويتجاسر على الذات الداخلة التي يخرج أوصالها الألم والرهبة من المحيط، فقد يكون المجتمع بليلاته المتعثرة يسرق الجراح، لذلك نجد الشاعر يلج عالماً آخر من التوليفات المتأنية من التأمل الباطن والارتباك صوتاً داخلياً نازفاً، وهذا دليل آخر على أن هناك غصة، لكنها تأبى الانكسار.، ورغم أن الشاعر يبدع بإضفاء خلب من جماليات الوصف بلغته المتصاعدة..
وفي نص بعنوان (ترتيب الضوء) يقول الشاعر:
“في زمن؛
القدرة للكلام على الرحيل،
تحاول أقلامي
نسج رداء ما
في بحثها الطويل
لمسك تلابيب المعاني..
وأنا أحاول ترتيب الضوء
الهازئ بالعين
علني أعيد الزمن
الهارب إلى الورد..”
النص في الظاهر يبدو عبارة مألوفة كما لو كانت مجرد إحالة على المفهوم، إما إذا توغلنا في عمق الشاعر فسنلمس تجاوزاً للمعنى الضيق وكسرًا للمألوف إلى فضاء أوسع مؤثث بصور مشحونة بالإيحاءات، وقابلة للتأويل والحدث المبهر.. فهي عبارة عن رسائل مشفرة شحنت بها القصيدة وتعكس استفهام حركتها لتسد على المتلقي كل منافذ السهو أو الارتخاء والانعتاق من النص… وفي مقطع من (تشكيل) يقول الشاعر:
“سآخذ ألوانك
على محمل العشق،
وكغصن زيتونة تلويه رياح الشمال
سأترنح
عند أخضر عينيك،
وفي أعالي بياض قمصانك؛
أبحر بعيداً..”
هنا نجد أن الصور البيانية والعاطفية تتجه باتجاه الانزياحات الدلالية والمعنوية مما يحيط النص بفضاءاتٍ عاطفية وفلسفية تنسجم مع أرواح المعاني من حيث القلق والاضطراب، واستخدام مفاتيح قراءة النص كبنية فنية مدروسة ومتقنة، وكمحتوى معنوي متكامل واضح الرؤية ومتسق الأفكار بفيض شهيٍ ومثير، وبموجات متتالية من الدفق الشعوري مرتبطة بحضور الآخر دوماً وتخلق منه هامات ومساحات مضيئة بلغةٍ متحررة تلامس برهافة مشاعرنا حيث يتحدد في النص مواقع الكلام في صور تخيلية بين الإرسال والاستقبال، ويؤدي ذلك إلى تماسك البنية الدلالية والدفق الموسيقي المليء بالانفعال العاطفي عبر صور شعرية هادئة.. ومن نص بعنوان (أصابع) يقول الشاعر:
“وأنا أترنم أصابعك؛
ثمة روائح كمولوية الدراويش،
تدور وتحلّق؛
حيناً كحبق خجول،
وطوراً كبخورٍ يعلن عن قدومه؛
ومرة كرائحة الحصاد
في ساعات الفجر الأولى..”
ذهب الشاعر إلى إمكانات اللغة وما تحويه من ترادفات وجناسات واستعارات واستخدام الصور الحية واعتماد مفردات استمدت من صميم التجربة والجو العاطفي من خلال سبر أغوار خبايا النفس بمهارة مبدع يعرف كيف يمرر شعاراته بين خيوط النسيج الشعري وبين متعة التوظيف الذكي والسرد المدهش وفق إيقاعات اللحظة المضطربة في الزمان.. كما تضم المجموعة عدة قصائد تحت عنوان(قريباً من الهايكو).. ولنقتطف بعض المقاطع من (قريباً من المقبرة) فيقول الشاعر:
“إشارات دلالة
بيني وبين المزار؛
أشجار البلوط.

رز وبخور
على مواكب الشهداء؛
شرفة أمي.

يحتفل الجميع بالنصر؛
الشهيد وأمه،
صامتان.

خاشعة بحمولتها،
تتزاحم صور الشهداء؛
جدران المدينة.”
هنا نجد فعل جمالي وإبداعي ينطلق أساساً من ذلك التوهج والاشتعال الذي يثيره السؤال أو مجموعة من الأسئلة التي تعتمل في ذهن الشاعر الذي يعيش وإياها حالة الصراع الدائم بحثاً عن الإجابة.. فالقصيدة تشريح كلي للواقع ممتدة فيه فلسفة الألم بأزمنة الفوضى الضائعة، وتلك الدوامة التي تحيط بالذات والمشاعر القلقة بتركيب تصويري وانتقاء مناسب للألفاظ التي واءمت الحالة الوجدانية التي يعيشها الشاعر والتي تلامس الروح والوجدان..

كلها تدل على أن الشاعر متمكن البناء لغوياً، فهو يقدم لوحات فنية على شكل صور شعرية متلاحقة ومتلازمة فتظل أمام فيض مشاعر مخيلته الناتج عنها هذا التنوع الصوتي المغامر بالصوت الصوفي إلى الذات الحاضرة التي توجه المعنى لنجد صور عاصفة تطاول المستحيل.. وأخيراً من خلال قراءتي للمجموعة الشعرية (كماء العنب في آب العناقيد) للشاعر علي الراعي؛ وجدت أن الشاعر يطرح أسئلة أنطولوجية عن قضايا تؤرقه ويغوص عميقاً في فكره، فكل ما حوله من الوجود: الإنسان والشوق والغياب والمنفى والوطن والحب هو أنين النفس وتساؤل الروح الحائرة.. فقد استطاع الشاعر بأسلوب فني يتميز بالتكثيف والاختزال واقتناص اللحظة الزمنية بلغة شاعرية أنيقة أن يمزج بين الواقع وتأملات الكون.. فالكلمات تحاول أن تلملم شظايا المكان ذلك لأن للغة القدرة على إعادة تشكيل عالمه، وعلى محاولة ترويض المنفى فقد ظهرت تجليات الأنين والانكسار التي جسدت الألم والواقع الذي يحيا في النفوس في مقام الفقد.. فالصور الشعرية طاغية في كل مقاطعها تنيرها الإضاءات الجميلة.. فالشاعر قدم من خلال مجموعته نصوصًا شعرية اعتمد من خلالها على الحكمة التي تمثل اختزال قدر كبير من التجربة والتعبير المباشر، فهو شاعر متمرس متمكن ابتكر لنفسه وسائل تعبيرية مبتكرة بإيقاع عذب وصور تتألق لتلامس برهافة مشاعر القارىء وخصوصاً أنه اعتمد التدرج في التعبير من بنية إلى أخرى رغم وضوح المعاني والدلالة والشاعرية الفلسفية.. كل هذا يدعو القارىء للوقوف أمام مصادر الدهشة المختلفة..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار