من بساتين وحقول الرواية السورية نذير جعفر يرصد عوالمها خلال مئةٍ من السنين
تشرين- علي الرّاعي:
يكاد كتاب «عوالم روائية» للناقد والروائي نذير جعفر؛ أن يُشكّل ما يُشبه البانوراما الموسوعية؛ تأخذ بالنقد والإضاءة على المشهد الروائي السوري من زواياه كافة، ففي «مرآة النقد التطبيقي» – كما في العنوان المُصاحب للعنوان الرئيسي – يأخذ الباحث مقطعاً عرضانياً وفي العمق النتاج الروائي السوري منذ التأسيس كما تمّ التأصيل له، قاطفاً زهرة من كلِّ بستان من بساتين وحقول الرواية السورية على مدى ما يُقارب من مئة سنة، وناثراً عطرها في سماء الإبداع السوري، مُبيناً مسيرة تطور حركة السرد الروائي السوري وانعطافاته بادئاً من رواية الرواد، وحتى آخر ما سطره كاتب سوري عن محنة الحرب على سورية. لدرجة يُمكن للقارئ أن يأخذ فكرة لا بأس بها عن نتاج كل مبدع من الذين تناولت الدراسة رواياتهم، حتى وإن كان القارئ لم يطلع على تلك الروايات. كما يُمكنه أن يُحيط “علماً” بالسرد الروائي السوري بشكلٍ عام.
مقطعٌ عرضاني
في هذا المقطع العرضاني للمشهد الروائي السوري، يُلخص جعفر الإبداع الروائي السوري من مختلف جوانبه واتجاهاته ومدارسه، واللافت في هذه الدراسة – الموسوعة، أنها لم تلحظ الكتابة النسوية في هذا المجال، ومن جهتي قد أضع أكثر من احتمال لهذا الغياب، منها على سبيل المثال: إما أن الرواية النسوية السورية، أو إن ما قدمته المرأة في السرد الروائي؛ كان قد تضمن ما يُماثله من كتابة الذكور في هذه الدراسة النقدية خلال الإحاطة بالمشهد الروائي السوري، ومن ثم لا ضرورة لإعادة تناوله مرة أخرى، وهذا ما أرجِّحه، أو أن ما قدمته النساء من السرد الروائي، لا يرقى للإضاءة النقدية، وهذا احتمال ضعيف بالنظر لما عرفناه عن الناقد جعفر واهتمامه بالأدب الروائي السوري مهما كان مستوى الإبداع على الأقل من باب الإحاطة بكامل المشهد الروائي من جوانبه كافة، والاحتمال الثالث؛ قد يكون أرجأ ذلك لدراسة أخرى ضمن كتابٍ جديد يأخذ التجربة النسوية السورية في الراوية.
عوالم روائية
بالعودة لكتاب «عوالم روائية» الذي يُمهد له بمسوغات الكتابة الروائية للسوريين الذين وجدوا ضالتهم من خلال الرواية بوصفها الجنس الأدبي الذي يتسع لكلّ أشكال التعبير، والإفادة من كلّ الأجناس الأدبية التي تُمكنهم من رصد الحياة وتحولاتها الدرامية واستبطان دواخل النفس البشرية، وهي ليست مرشحة للتعبير عن أزمات الإنسان وتحولاته وخيباته وكرهه وأحلامه، بل والتبشير أيضاً بعصرٍ جديد، كما أرجع الباحث «ازدهار الرواية» السورية في بعض أسبابه إلى أنها عمل فردي بامتياز أولاً، ولأنها تُغذي السينما والدراما التي تجد من يُمولها ويُسوقها ثانياً، ولأنها الفن الذي يستوعب كل النبرات واللغات الاجتماعية والأيديولوجية ويوظف كلّ الفنون في بنيته ثالثاً، هذا الازدهار للفن الروائي؛ ما يُفسره جعفر وراء تحول عدد كبير من المبدعين في أجناسٍ أدبية عدة إلى كتابة الرواية.
أربعة فصول
وكما أخذ الناقد مقطعاً عرضانياً في المشهد الروائي السوري لدراسته بما يعني انسحاب الجزء على الكل، سنحذو حذوه في هذا المقال، ونقرأ بعض ما كتبه عن الروائي الراحل هاني الراهب، لكن قبل ذلك نُذكر أن صاحب «عوالم روائية» كان قسم بحثه إلى أربعة فصول؛ في الفصل الأول تناول رواية الريادة والتأسيس من خلال كتابات الرواد: قسطاكي الحمصي، حسيب كيالي، حنا مينه، وصدقي إسماعيل، فيما سمّى الفصل الثاني برواية التحديث؛ قرأ خلاله روايات: لإبراهيم الخليل، نبيل سليمان، حيدر حيدر، غسان كنفاني، فواز حداد، محمد الماغوط، هاني الراهب، ووليد إخلاصي، وأما فصل رواية التجريب؛ فقد خصصه لكل من: خليل صويلح، سمير عامودي، غسان ونوس، ومحمد دالاتي، وركز في الفصل الأخير على رواية الحرب من خلال رواية «شارع الخيزران» للروائي حسن صقر.
عالم هاني الراهب
وبعد هذه الإضاءة على فحوى ما تناولته الدراسة النقدية للباحث جعفر سأكتفي – لضيق الحيز – ببعض ما أورده عن ثيمات الكتابة الروائية لصاحب التجربة التي تبدو الأكثر نضجاً واكتمالاً، واٌقصد بذلك الروائي هاني الراهب، وذلك من خلال الإحاطة بأدوات الكتابة الروائية كافة. جعفر الذي أطلّ على كتابة الراهب من خلال عدة ثيمات وجدها الأبرز والتي تُعطي الملامح الخاصة لصاحب «ورسمت خطاً في الرمال» منها: التحديث في المضامين والتقنيات الفنية، والتناص مع الموروث، والصراع الحاد، بين الإنسان وشروط حياته التي تحد من حلمه، وحقه، واختياره. تلك هي الثيمات الرئيسة في عالم هاني الراهب، وهي تُمثل هاجسه العميق وإستراتيجيته الأصيلة في مشروعه الروائي الذي دأب على إثرائه وتطويره حتى رحيله.
بتلك الثيمات استطاع الراهب الاغتراف من نهر الواقعية العظيم بتدفقه وعمقه من دون أن يتخلى عن حداثة تقنياته التي اختبرها في أعماله تاركاً في الذاكرة صوراً لا تُمحى لنماذج بشرية مُعذبة تواجه مصيرها المأساوي بشجاعة، وبذلك يكون الرهب واحداً من رواد التحديث في بنية الخطاب الروائي وتقنياته وموضوعاته أيضاً، ولعله واحد من المبدعين العظام الذين لا يشبهون إلّا أنفسهم في النهاية، على الرغم من الخيوط التي تربطه بغيرهم من مبدعي عصرهم.
الكتاب: عوالم روائية
الكاتب: نذير جعفر
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب