مع المعرفة في هذا العصر أنت أمام الباب الدوار الذي يلف الجهات الأربع من دون توقف! مواد غزيرة، متدفقة، متشابهة، متناقضة، لا وقت للتدقيق في مصداقيتها، ولا حتى للتأمل في تفاصيلها، وسريعاً ستمرُّ لتُخلي مكانها لغيرها، كأنها عملية شطف متكررة لسطحٍ أملس، إذا تُرك للحظات سيغدو غير صالح للتمرّي! ومن ضرورات هذا العصر أيضاً أن تغيب المطوّلات، فلا أحد يملك وقتاً لقراءة نص طويل، مهما كانت أهمية الموضوع، وإذا اقتضت الضرورة يُستغنى عنه بعد المرور على العنوان والسطر الأول!
لا غضاضة أن تنتقل المعرفة برمتها إلى “قواعد” تتناغم مع خلل أصاب جزئيةً منها أفقدتها الشمولية العلمية، فقد تحولت إلى “حصصٍ” صغيرة توزعها “منصات” تتقاسم الأدب والفن والتاريخ والتغذية والموضة والجريمة والقانون والطب والخبرات اليدوية وحتى الصناعة والزراعة، بحيث غابت المكتبة والمراجع البحثية بل وحتى الصحف التي على أهميتها لم تحظَ بمكانة الكتاب المتخصص، وبات “الطقس المعرفي” لا يحتاج إلى ركن وهدوء وتركيز ذهني لأنه أُتيح على جهازٍ لوحي قادر على القفز بين ألف نافذة في لحيظات، وهو بذاته قد يتمرد على صاحبه ولا يرضخ للضبط، بل يقفز تلقائياً من موضوع إلى آخر ليجذب الانتباه إلى تنافس المواقع على الجمهور!
في فلتة من زمن التسارع هذا، يمر خبر رحيل علَمٍ كبير، وصفحة من الصفحات تلتزم معيار أن تكتب أكثر من الخبر، فتأتي على إنجاز الراحل كتباً ومؤلفات ومواقف كأنها تغادر نحو عتبات الماضي، الذي يأخذ إلى المعرفة يوم كانت بردائها الضّافي ويُعنى بالمعنى والتدقيق والمراجعة غير المكتفية بالرسم السريع، ومثلها موضوع عن المسرح يكتبه متخصص عنيد لم تعصف بأوراقه رياح “الميديا” ويجد عنده “المتصفّح” في أزقتها، مادة ثرية، مشوّقة، مفيدة، تأخذه إلى الثقافة الحقيقية كما هي!
مثل هذه الكتابات التي تعبُر لماماً في زحمة المنوعات والخلطات التي خرجت، للمفارقة، من عالم الطباعة إلى الأبد بحكم كتابتها على الأجهزة المحمولة، صارت تبدو مع أصحابها كالغريب بين الأقرباء، والغريب لا يبدو مرتاحاً قَط بين قومٍ لهم أساليبُ في العيش والتفاهم والاختلاف والعشرة والتزاوج والتكاثر لأنه سيبذل جهوداً جبارة كي يحافظ على حياته وذاته بينهم، ولكم عاش الغريب دهوراً بين أقرباء لكنه بقي غريباً حتى لو قلّدهم وحاول التشبه بهم، وهل هناك مأساة أكبر من مأساة مبدع، أجبره هذا العصر على نقل ذاته وأدواته إلى عالم التسارع والتسريع الذي تعتمده “الميديا”؟
نهلة سوسو
123 المشاركات