تحدّيات نُظم الأغذية المُستدامة ومكافحة الهدر ضمن رؤية تحليلية.. خُبراء يُشخصون المرض والعلاج
تشرين – بارعة جمعة:
“الفاقد الأكبر من الغذاء يحصل خلال مرحلة ما قبل الحصاد (الإنتاج)، مقارنة بالمراحل الأخرى بالنسبة لكل المجموعات الغذائية المدروسة، وبالدرجة الأولى مجموعة الحبوب (القمح والشعير)، تليها مجموعة البقول”، هي خُلاصة دراسة ميدانية لعمل القطاع الزراعي، تُظهر حجم المسؤولية الكُبرى التي تقع على عاتق هذا القطاع في تحقيق الأمن الغذائي للأسر، التي تعاني اليوم ازدياداً في الفجوة بين الاحتياجات الغذائية المتزايدة للسكان، إلى جانب التحديات المتزايدة في الإنتاج الزراعي، وهنا تبرز التساؤلات من المُتابعين لهذا الشأن حول كيفية إدارة الإمكانيات وفق خطط من المفترض أن تكون مدروسة، بما يتناسب وحجم الموارد المرهونة لها، ليبرز السؤال الأهم اليوم لدينا: ما هي أسباب الهدر الكبير في قطاع الزراعة.. قياساً بما يتم الإعلان عنه من إنتاج لا يتوافق مع الخطط المرهونة له في المرحلة الأولى؟، وهل ما يتم اعتماده من سُبل كفيلة لتسويغ نقص الإنتاج وازدياد الهدر والفساد سنوياً !!.. ولاسيّما ضمن المحاصيل الإستراتيجية منها؟.
الفاقد الأكبر يحصل خلال مرحلة ما قبل الحصاد (الإنتاج) مقارنة بالمراحل الأخرى وبالدرجة الأولى مجموعة الحبوب (القمح والشعير) تليها مجموعة البقول
ثقافة العمل
“النجاح لا يُقاس بعدد الهكتارات المستثمرة لزراعة القمح، ولا حتى بكمية الإنتاج العام من الطحين!!.. وإنما بمردود الإنتاج الزراعي للقمح من الهكتار الواحد، ومن مردود الإنتاج الصناعي للطحين من المادة الأولية، والنسب المعيارية العلمية!!..”، قراءةٌ من عمق الواقع، قدمها الصناعي عاطف طيفور، تُؤسس لثقافة عمل واضحة تضمن نجاح الخطط المرهونة للمنتج الزراعي، وما يليه من صناعات تقوم بالأساس عليه، هي معادلةٌ ليس من الصعب تطبيقها، من حيث تحقيق التوازن المطلوب بين الكميات التي يتم الإعلان عنها سنوياً والتي بالكاد تؤمن قوت الفلاح نفسه بعد تعب ومجهود عام بأكمله.
هي سياسة لا تخلو من الهدر والفساد بآنٍ معاً، وفق حديث طيفور لـ”تشرين”، ما يُلزم الأطراف كافة بإعادة النظر بما يتم العمل عليه واعتماده، لكونه من أخطر الملفات التي تحتاج إعادة الدراسة والهيكلة بالكامل لجهة نسبة الهدر، التي قد تنتج عن أخطاء إدارية أو فنية أو فساد برأي طيفور، وقمة النجاح الإداري هي تخفيض نسبة الهدر للحد الأدنى.
خطأ فكري
مازلنا حتى اليوم نعتقد أن النجاح هو كم من الهكتارات مستثمر، وكم ماكينة تعمل!!.. من دون إدراك مُسبق بأن النجاح هو بقياس نسبة الإنتاج من الهكتار الواحد، ونسبة الإنتاج من المادة الأولية، اتجاهٌ فكري لا بُد من تكريسه، وفق منظور الإدارة الناجحة للمحاصيل، لاسيما الإستراتيجية منها (القمح والقطن والشوندر السكري)، التي عدّها الصناعي طيفور الأكثر أهمية في معالجة نسب الهدر فيها.
نعم.. أي استثمار لا يحقق القيمة المضافة المعيارية، ولا يحقق نسبة الهدر المعيارية هو غير مُجدٍ اقتصادياً، كما ويُصنف هدراً للمال العام، وهدراً لموارد الدولة من المخصصات العامة في رأيه، ليبقى السؤال الفني هنا: كم مردود الإنتاج الزراعي للهكتار للمواد الزراعية الإستراتيجية، وأهمها القمح والقطن والشوندر السكري؟!، وكم مردود الإنتاج الصناعي من هذه المواد الأولية؟!، وهل نحقق النسب المعيارية العلمية!!.. كل ذلك يقودنا للنظر إلى نسبة الهدر الزراعي أيضاً، من المال والماء والمحروقات والمستلزمات الزراعية، ولنأخذ الشوندر على سبيل المثال لا الحصر.. هو مادة زراعية إستراتيجية وتحتاج عناية خاصة بالمواصفات الفنية المعيارية، بالتركيز على المردود الصناعي ونسبة استخلاص السكر من المادة الأولية، بالإضافة الى المردود الزراعي للهكتار..
في موسم الشوندر العام الماضي وصل الإنتاج لقرابة 160 ألف طن، استُخلص منها 16 ألف طن كمنتج نهائي، سكر أبيض، بمعنى أن 10% نسبة استخلاص، فيما متوسط الاستخلاص المعياري لإنتاج السكر من الشوندر وسطياً هو 16%.. لتبدو نسبة الهدر هنا 6%.. وفق حسابات طيفور، نسبة الإنتاج والاستخلاص والقيمة المضافة لمادة الشوندر لها عدة مقاييس، وأهمها المعايير الزراعية، ونوعية البذار، ونوع العروة، والري، السماد، ونسبة الحلاوة، بالإضافة لصيانة الماكينات الصناعية.
طيفور: قمة النجاح الإداري هي تخفيض نسبة الهدر إلى الحد الأدنى
من هنا تبرز خطورة هذا الملف، التي باتت بحاجة لإعادة دراسة وإعادة هيكلة بالكامل (هي نسبة الهدر)، والتي قد تنتج عن أخطاء عدة.
بين التخطيط والواقع
حالةٌ من عدم الانسجام، تؤكدها بيانات وإحصائيات قدمها الصناعي عاطف طيفور لخطط سابقة، أثبتت الفجوة الكبيرة بين الواقع والمأمول، حيث تبين وفق خطة زراعة القطن لعام 2019 أنه تم رهن 73 ألف هكتار نُفّذ منها فقط 34 ألف هكتار، وكان الإنتاج المتوقع هو 100 ألف طن، بينما الإنتاج الواقعي 36 ألف طن، بينما تضمنت خطة زراعة 2021 رهن 78 ألف هكتار، نُفّذ منها فقط 29 ألف هكتار، والإنتاج المتوقع 72 ألف طن، بينما الواقعي منها 14 ألف طن، أما عام 2022 فقد تم رهن 57 ألف هكتار، تم تنفيذ منها 24 ألف هكتار، كان الإنتاج المتوقع 66 ألف طن، بينما الإنتاج الواقعي منها بلغ 14 ألف طن، وفي بيانات العام الماضي، التي تُعدُّ الأحدث والأكثر مواكبة لتطورات وتحديات العمل، نجد أنه تم رسم خطة زراعة 58 ألف هكتار نُفّذ منها فقط 35 ألف هكتار، كان الإنتاج المتوقع منها 87 ألف طن، بينما الإنتاج الواقعي 15 ألف طن، كل ذلك يقود الصناعي طيفور للتساؤل مجدداً : أين الخلل الإداري في الإنتاج؟ وأين الخلل الفني في المردود؟
علماً أن إنتاج سورية من القطن قبل الأزمة يتجاوز المليون طن، وانخفض بسبب الجفاف عام 2007 إلى 600 ألف طن كحد أدنى، واستقر بعدها حتى بداية الأزمة..
حالة عامة
ربما ليست المرة الأولى التي يتم الحديث عنها عن ملفات الهدر، أو التعاطي بها ضمن صيغة ضمان الاستثمار الأمثل للموارد، وسط حالة من عدم الرضا عن الواقع الزراعي من الأطراف كافة، في الوقت الذي نجد فيه أن كل المجتمعات والدول وعلى اختلاف مستوياتها (نامية أو متقدمة) تحتوي حجماً كبيراً من الفساد، إلا أن حجم الفساد لدينا قد توسع وتشابك بشكل كبير جداً وتشابكت حلقاته بدرجة أصبحت مسألة مواجهته أمراً ليس سهلاً، وفق توصيف استشاري تدريب وتطوير الدكتور عبد الرحمن تيشوري، أما تناول هذه الملفات والحديث عنها وعن محاربة الفساد وعن الإصلاح الإداري والحكومة الإلكترونية منذ 20عاماً،.
المعاناة كبيرة، بدءاً بفاقد المياه والكهرباء والموارد البشرية والهدر الكبير فيها، وصولاً إلى تدني الرواتب والأجور ، وعندما كان التوجه عام 2014 بإحداث وزارة بحقيبة ووزارة سيادية لتطوير العمل الإداري، لم نحقق الهدف ولم نخفف الهدر في أي قطاع، كما إن الإخفاقات كثرت، وفق د. تيشوري.
تفاوت ملحوظ
اليوم، ونحن البلد الزراعي الذي ما زال 60 % من مواطنيه يعملون في الزراعة نجد أن منتجاتنا من الزراعة المحلية هي الأغلى وبأسعار فاحشة وخيالية، والسبب عدم وجود سياسات زراعية وآليات وبرامج وخطط إنتاجية واستثمارية، بالتالي أصبح لدينا هدر كبير في الإنتاج الزراعي ووحدة الماحة والميادين كلها، على حد تعبيره.
ويُضيف تيشوري، واضعاً أسباب التراجع بدايةً، بقوله: “لا نستخدم تقانات حديثة ولا أصناف نباتية مناسبة، ما أدى إلى التراجع في أنواع المواشي التي نربيها وبالدواجن أيضاً، كما إننا لا نكافح الأمراض الزراعية، والدليل أن كل الفلاحين يعانون من أمراض الزيتون سنوياً”، هنا يعود الدكتور تيشوري ليؤكد مجدداً ضرورة اعتماد أسلوب جديد يُبنى على النهج التشاركي إلى جانب ابتكار أصناف لتحسين الإنتاج الزراعي وتحقيق التنمية المُستدامة، إذ يبلغ متوسط راتب السوري والفلاح والمنتج اليوم يُعادل 400 ألف ليرة سورية، وبالتالي الفجوة كبيرة جداً.
هدر كبير
كل هذه الأسباب تقودنا لنتيجة واحدة مفادها بأن ثمة هدراً في كل المستويات، في رأي الخبير تيشوري، هناك هدر في الأراضي غير المستثمرة، بينما الهدر كبير في المحاصيل والإنتاج وتراجع الحبوب والبقول، كما بتنا نستورد الأقماح والطحين، لذا يجب اعتماد نهج جديد يعتمد شبكات ري حديثة، ودعم صناديق الإقراض الزراعي، بما يؤمن تحقيق الأمن الغذائي كما في الثمانينيات الذي بدوره مكن قرارنا السياسي آنذاك.
د. تيشوري: القطاع الزراعي يتصدر قائمة الهدر د يليه قطاع الإدارة المحلية والإدارة العامة والخدمات
ما يجب العودة إليه اليوم، في رأي د. تيشوري، هي السياسة الصحيحة لاستثمار مواردنا بشكل أمثل، ووضع برامج للقضاء على الفساد بكل القطاعات، ووضع برامج لتطوير الصناعة والاقتصاد، لأننا وصلنا إلى وضع لا نُحسد عليه، وعلينا الخروج من النفق، فالجميع يؤكد وجود الهدر والفساد في كل الميادين، كما إن القطاع الزراعي يتصدر القائمة، يليه قطاع الإدارة المحلية والإدارة العامة والخدمات الحكومية، كما إن جميعنا تعرض للفساد، والأسباب كبيرة، وباتت معروفة لنا، لكن ما نحتاجه اليوم هو الجرأة في القرارات، وكلنا أمل بعد اجتماع حزب البعث مؤخراً والقيادة المركزية واللجنة المركزية والفروع، والذي سينتج بعدها برلماناً وحكومةً جديدين، على أن يكون لهما دور كبير في وضع طرق لمكافحة الهدر والفساد، وفق رؤية الخبير د. عبد الرحمن تيشوري، فأداء الإدارات ضعيف للأسف، والفساد يزداد عاماً بعد عام، لذا نحن بحاجة إلى آلية عمل وتفكير جديدة .