حماية خطوط الإنتاج الوطنية واتباع السياسات المالية النزيهة والتخلي عن التحوط غير الضروري.. مرتكزات أساسية لإعادة ترميم المنظومة الصناعية السورية
تشرين- حيدرة سلامي:
صدر في عام 2023 البلاغ رقم 10 الصادر عن رئاسة مجلس الوزراء، الذي طلب انتهاج سياسة الحفاظ على الثروة الصناعية، والبدء بالتخطيط لإنشاء المدن الصناعية الضخمة لإعادة إعمار ما دمرته الحرب، و قد جاء في المقترحات الإدارية، جمع الصناعات في المدن والمناطق الصناعية كونها تشكل الحيز المكاني الآمن لجميع المنشآت، وتؤمن كل متطلبات التشغيل من البنى التحتية الجاهزة وبسعر التكلفة، مع أهمية تطبيق القوانين والتشريعات كونها تشكل الضمان للحقوق وتشجع المستثمرين على التوجه إلى المدن والمناطق الصناعية في مختلف المحافظات، وتشجع العاملين أيضاً على الدخول إلى هذه المدن لما قد توفره من خدمات وامتيازات للعمال القاطنين.
أنواع الصناعة الخمسة
نجد من الواجب تسليط الضوء على أنواع الصناعة الأكثر استقراراً في العالم، وذلك لأن التحديد الدقيق لهذه الأنواع يمنع الاختلاط بينها، ويكشف مواطن التلاعب بين هذه الأنواع الخمسة.
تتجه الإستراتيجية الصناعية اليوم في سورية إلى الأخذ بمبدأ التركيز الصناعي ومبدأ الاكتفاء الذاتي
فهناك تكاليف التصنيع في المرحلة صفر، وهي الصناعات الاستخراجية، أي المواد القابلة وبشكل آني للاستهلاك البشري، كالمزروعات والمواشي، والفضة والذهب وغير ذلك.
وهناك الصناعات التحويلية أو الصناعات في المرحلة الثانية، وهي الصناعات التي تشمل تحويل المواد من شكلها الخام وجعلها صالحة للاستهلاك البشري.
وهناك أنماط الصناعة الأخرى كالصناعة الخدمية وهي النوع الثالث، والصناعة المالية النوع الرابع وتختص بها البنوك، والنمط الخامس هو الصناعة البشرية أي تأهيل الأفراد والحكومات.
والأمر الذي تشترك فيه هذه الصناعات جميعها، هو خضوعها لسياسة التقييد الحكومي للقيمة السوقية، أي إن الحكومات دائماً تفرض قيوداً على العمل الصناعي بحيث تتحكم في الإنتاج في نسبة صناعية مشهورة هي سبعة إلى ثلاثة، لمصلحة المستهلك والمواطن على حساب الحكومة، حيث إنها تقوم بحساب حاجة المواطنين والتجار من الإنتاج المحلي لتزدهر السوق الداخلية، وفي الوقت نفسه تتجه إلى حساب حاجة الأجهزة الحكومية والدوائر لإبقاء هذا الإنتاج الوطني مضبوطاً، بحيث تبقى قواعد المنافسة التجارية النزيهة سارية المفعول على السوق الوطنية.
الصناعة السورية اليوم
تعاني الصناعة السورية اليوم من ضعف واضح في بنية القطاع الصناعي، الأمر الذي كان من نتائجه جنوح السوق المحلية, مع خروج قسم كبير من السلع عن رقابة الخطوط الإنتاجية، وذلك مع دخول كمية كبيرة من المواد والسلع المهربة، إلى داخل خطوط الإنتاج الوطنية، بهدف إضعاف الدورة الاقتصادية الداخلية للصناعات السورية، وإن أكثر ما يعاني القطاع الصناعي اليوم، هو محاولات التدمير الممنهج، التي تمثلت في التدمير الهائل في البنى التحتية الصناعية، وذلك بسبب الأعمال التخريبية على مدى السنوات السابقة، وهناك أيضاً محاولات فرضتها الأطراف الأجنبية على الصناعة السورية، من خلال المواجهة الاقتصادية غير النزيهة، لمنع الاقتصاد السوري من التعافي، حيث هناك الكثير من الشروط والبنود على استيراد المعدات والآلات التي يمكن أن تساهم في عملية إعادة الأعمار، وفي عملية إعادة إنشاء البنية الصناعية والتي هي تعدّ الهدف الأساسي لهذه العقوبات.
إستراتيجية العمل القادمة في الصناعة السورية
تتجه الإستراتيجية الصناعية اليوم في سورية، إلى الأخذ بمبدأ التركيز الصناعي ومبدأ الاكتفاء الذاتي، “نظرية ألفريد فيبر و نظرية الأماكن المركزية الجغرافية كريستالر”، وتعتمدان بشكل أساسي على عنصرين هما: التركيز الصناعي الفعال، أي تركيز القدرات الصناعية في مكان معين، وتركيز هذه القدرات الصناعية في مركز جغرافي مهم.
عمد الكثير من البلدان إلى تفعيل شبكة الخطوط الحديدية التي كانت مهملة على مدى الأعوام الماضية.. توفيراً للأموال والجهود
وبذلك تتحقق استراتيجية التوطين الصناعي وهي نظرية تأسست في القرن الماضي، ولا تزال التشريعات والسياسات الحديثة قائمة على العمل بها، وهي تقوم على اتباع المناطق الجغرافية المناسبة في إنشاء المعامل أو المناطق الصناعية على خطوط الإنتاج نحو العاصمة ونحو المدن المؤثرة، وهو أمر يعتمد بشكل أساسي على توفر شبكات الطرق والمواصلات، التي تساهم في تقليل الضغط عن شبكة الطرقات العامة من جهة، وتساهم في اختصار تكاليف النقل على المعامل والمنشآت الصناعية من جهة أخرى، وهنا كان النشاط الحكومي السباق إلى ابتكار الطرق المختلفة، في اختصار التكاليف والوقت بين المدن الصناعية أو المنشأ الصناعي للبضائع والسلع، وبين المستهلك النهائي، من تفعيل دور السكك الحديدية القديمة، واتباع أسلوب الصناعة الحديث، استخراج الحداثة من القدم .
عمدت بعض الدول ذات الإمكانات الجغرافية المحدودة إلى شق طرق خاصة بين المدن الصناعية وبين المدن والقرى، حيث تتم دراسة إمكانية السير في هذه الطرق مع البدء في تأسيس المدن الصناعية، ما يوفر للمدينة الصناعية منفذاً دائماً لتصريف بضائعها ومنتجاتها، بأقل التكاليف، وطريقاً سهلاً في وصول العمال إلى مكان عملهم، وقد كان من المقرر السير في إنشاء هذه الطرق، ليس بالشكل المكلف، ولكن بالشكل المطلوب.
يحصد أصحاب التحوط من الصناعيين كلاً من الأرباح والراحة التجارية في ممارسة أعمالهم على حساب راحة المستهلك الذي يضطر أيضاً لأن يدفع ضريبة إضافية
حيث عمد الكثير من البلدان إلى تفعيل شبكة الخطوط الحديدية، التي كانت مهملة على مدى الأعوام الماضية، لاسيما في إفريقيا وأوروبا، وآن اليوم الوقت لإدخال هذه الخطوط في الخدمة من جديد، لاسيما في مجال نقل بضائعها من المدن الصناعية إلى نقاط التوزيع المهمة، وبهذه الطريقة تجنبت الحكومات إنفاق المال والوقت الضخم على الطرق العريضة، وإعادة الاستفادة من بنيتها التحتية غير المفعلة، أو كما يمكننا أن نطلق عليه بالمصطلح الصناعي، استنباط الأساليب الجديدة من القديم، وهو أمر يجب الأخذ به بعين الاعتبار، لاسيما في بلادنا حيث أن المعدات والمواد المطلوبة لتفعيل أو لإنشاء هذه البنية التحتية، غير خاضعة في معظمها للعقوبات لأنها بسيطة و متوفرة، وإن تكلفة تفعيل هذه الخطوط الحديدية أو إنشاء خطوط جديدة، هي أقل من ناحية الوقت والتكاليف بآلاف المرات من استراتيجية التوسع في شق الخطوط العريضة، لاسيما أن بلادنا ذات طبيعة وعرة في غالبها، وسيحتاج التركيز الصناعي إلى فتح خطوط إمداد مباشرة بينه وبين مراكز الاستهلاك، ما قد لا يكون متوفراً ضمن التقنية الموجودة حالياً، وهناك أيضاً موضوع توزع مناطق الضرر من جراء الحرب، حيث إن أضرار الحرب كانت موزعة ضمن مناطق داخلية، ومنتشرة، ما سيكون عقبة أمامنا حتى لو تمكنا من السير في موضوع إعادة الأعمار، حيث إن المواد ستكون مقيدة بشرط الوصول في الوقت المناسب إلى المكان المناسب، والمعدات المطلوبة للسير في منظومة إصلاح السكك الحديدية، هي غير خاضعة للعقوبات في كل الأحوال حيث إنها وطنية المنشأ، وحيث إنها بسيطة وعملية من ناحية التصنيع، فتتفوق قدرة الآلات والسكك الحديدية على حمل الأوزان الثقيلة من الحمولة، وتقل في تكاليفها أيضاً عن نظام الترانزيت بين المحافظات.
ونحن نرى بذلك أنه إن كانت المرحلة القادمة متجهة نحو إعادة هيكلة الصناعة السورية في المدن الصناعية، فلا بد من أن تتجه سياسة خطوط الإنتاج الصناعية إلى الاعتماد على دور النقل القديم في شق طرق جديدة بين المنشأ الصناعي للسلع وبين نقاط التوزيع الجديدة، وفي ذلك نحن نتجنب الولوج في خطوط الإمداد المتهالكة من جراء الحرب الطويلة وما يترتب عليها من تكاليف وإشكالات قانونية.
تناقض الأداء
يعتمد الكثير من المصانع على وضع خطة إنتاج وهمية لا تمت لطاقة المصنع الحقيقية بأي صلة وأقل بكثير من قدرات المصنع، حيث إن قدرة إنتاج المعمل أو المصنع تفوق بكثير الهدف النهائي للخطة الإنتاجية، فبالرغم من أن بعض المعامل تحقق نسبة 110 إلى 120 بالمئة من هدف الإنتاج، إلا أن هذه النسب الإيجابية في الشكل لا تغطي لأي من الحاجات الصناعية أو السوقية أو الشعبية، وذلك لكي تضع هذه المعامل نفسها في الجانب السليم رقابياً، بينما تقوم بتقنين طاقة الإنتاج الفعلي في المصنع، لمصلحة استيراد الخدمات الأساسية من طاقة ووقود ونقل ومخصصات إنفاق حكومية وغيرها، عن طريق إصدار فواتير وهمية هي الأخرى.
ومن جراء هذه الأنشطة تنتج المعامل عادة، تحت الحد الأدنى من المطلوب، تحت غطاء قانوني، فلا يعود من السهولة تتبع الهدر في أداء المعمل أو المنشأة، و تختل السلسلة الإنتاجية، والخطير في هذا الموضوع من العيوب في خطوط الإنتاج الصناعية، بأنه غير قابل للمكافحة حتى بالاعتماد على الطرائق الحديثة كالنظم الذكية الشهيرة كبرنامج Agile, ITIL , Kanban. وغيرها من نظم الإدارة الذكية للمنشآت الصناعية وخطوط الإنتاج.
الصناعة والتجارة والاقتصاد هي بأشكالها مفاهيم مجردة لا تتعرض لما تتعرض له العناصر المادية من تهالك أو فناء فلا يمكن لأي عقوبات اقتصادية أو حرب إنسانية ممنهجة أن تدمر هذه المفاهيم بشكل مطلق
ويعود السبب في ذلك بشكل أساسي إلى استحالة استبدال العنصر البشري بالعنصر الآلي في صنع القرار، حيث أن جميع النظم الذكية، تعمل في النهاية على أرقام ثابتة، تدخل عن طريق للعناصر البشرية في نظام خطوط الإنتاج.
سياسة التحوط المالي
تعاني السلع والمواد المصنعة وغير المصنعة بشكل عام، من فرض تكاليف غير منطقية على خطتها الإنتاجية من جهة تخمين تكاليفها الحقيقية، حيث أن السلع ذات المنشأ الوطني تعاني من التحوط المالي الذي تخضع له السلع ذات المصدر الأجنبي.
والتحوط بشكل عام هو أسلوب بسيط تعمد عليه الكثير من المشاريع الصناعية عادة، في محاولة لمواجهة التضخم ذي المعدل غير المستقر، حيث إنها تفترض في أسعارها مواجهة تحديات غير حقيقية أو متوقعة في أسوأ الأحوال، فترفع أسعار السلع إلى أقصى حدودها لتتمكن من زيادة الادخار في صندوقها أو حصالتها، لمواجهة التضخم، والمشكلة هي أنها لا تستثمر عائدات هذا الصندوق في تغذية رأسمال الشركة بحيث تسهم في زيادة القاعدة الإنتاجية والقدرات الصناعية للشركة، بل تدخره في حصالتها كأرباح، تعزو وجودها لمكافحة التضخم في حال ارتفاع سعر الصرف.
فيحصد أصحاب هذا التحوط كلاً من الأرباح والراحة التجارية في ممارسة أعمالهم، على حساب راحة المستهلك الذي يضطر أيضاً لأن يدفع ضريبة إضافية في التحوط، وهي أمان الأعمال التجارية وراحة بالها، والحقيقة أن الحياة التجارية تحتاج في جميع أشكالها للمخاطرة، وتحميل خطوط الإنتاج للسلع والمواد بمصاريف هذه السياسات المالية من التحوط المفرط، يعطي خطوط الإنتاج الصناعية هامشاً كبيراً من الأرباح غير الحقيقية التي يحصل عليها المعمل من دون أن تكون ذات فائدة للمستهلك، بل إن بعض الصناعيين يلجؤون عادة إلى زيادة تكاليف الإنتاج الكمالية على السلعة من تغليف واحتفاظ وتوزيع ونقل وغيره، وتطبق في هذه المراحل المضافة سياسة التحوط المالي لزيادة هامش الأرباح بشكل قانوني، فقد لا يتحكمون بسعر السلع بشكل مطلق، ولكن يمكنهم أن يتحكموا بطول المسافة بين منتجاتهم والمستهلكين، بهدف الاستفادة من هذه الثغرات.
والحقيقة أن التحوط المالي أمر مجحف بحق المستهلك فقد تكون البضاعة المصنعة بشكل تحويلي خاضعة في إنتاجها إلى هذه الإجراءات الطويلة والمركبة، بينما لا نجد ضرورة تطبيق هذا النظام الحسابي الحالي في التحوط على المواد الاولية، التي تخرج فوراً من المنشأ الأساسي وتكون جاهزة للاستهلاك بشكل مباشر، ومن غير العادل تطبيق سياسة التحوط المفرط على هذا النوع من السلع.
في دراسة استراتيجية العمل ضمن شركة صناعة السيارات “أودي”، نجد من الواجب التنويه بأن المعمل كان قادراً على إنتاج حوالي الثمانمئة سيارة في اليوم الواحد، في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، ورغم ذلك تتجنب شركة أودي الدخول في الاستثمارات المالية وتركز على الإنتاج فقط، فلا تطرح أصولها المالية للتداول، بحيث أنها تركز على قيمة التصنيع الدقيق للعملاء والزبائن، وتواجه التضخم النقدي بكمية السلع الموجودة عندها، وتستثمر إضافة إلى ذلك أرباحها الادخارية، في صندوقها المالي، لتواجه الأزمات المالية الناشئة عن التضخم والتنافس بالتنسيق مع قسم الإنتاج، فلا تضطر إلى وضع تكاليف تحوط غير ضرورية تثقل أسعار السلع على العملاء، والهدف من هذا الأسلوب في تنسيق الموارد المالية والصناعية، هو ضمان سير العمل والتزامه بالخطة الإنتاجية.
وفي النهاية نجد أنه من الضروري تسليط الضوء على أمر في غاية الأهمية، وهو أن الصناعة والتجارة والاقتصاد هي بأشكالها مفاهيم مجردة لا تتعرض لما تتعرض له العناصر المادية من تهالك أو فناء، بل هي مفاهيم متجددة لا يمكن أن تفنى، يمكنها أن تقع في المديونية يمكنها أن تتعرض لكل أشكال الضغط لكن مادامت تبقى المقايضة قائمة ومادام يبقى تحويل المواد من أشكالها الطبيعية موجودة في الثقافة الإنسانية، فلا يمكن لأي عقوبات اقتصادية أو حرب إنسانية ممنهجة، أن تدمر هذه المفاهيم بشكل مطلق.