بين من يؤكد وجودها وآخر ينفيها هل «تسربت» الأجناس الأدبية من المدارس؟
تشرين-تحقيق: علي الرّاعي:
حتى هذه اللحظة، وعند قراءة ناقد ما –لاسيما إن كان ناقداً أكاديمياً- لأي نص إبداعي، سواء كان نصَّاً سردياً كالقصة أو القصيدة، أم بصرياً كاللوحة التشكيلية أو فيلماً سينمائياً، فغالباً ما يُحاول ذلك الناقد أن يُفتش عن “خيمةٍ” غربية، ليحشر “النص” تحتها، حتى غدا البحث عن مذهبٍ ما ينتمي إليه النص الإبداعي؛ غاية الناقد.. ربما لأنّه وحتى اليوم بقي حظ العرب في وضع مناهج نقدية خاصة بنتاجاتهم الإبداعية، ليس قليلاً وحسب، وإنما خجول ولا حتى يُذكرون في إنشاء واكتشاف المدارس والاتجاهات النقدية التي تمّ اعتمادها في العالم.. والمحنة عند النقّاد العرب ليس في عدم ابتكارهم لمدارسهم النقدية التي يقرؤون من خلالها النص واللوحة التشكيلية والعرض المسرحي وغيره من أنواع الإبداع المحلية.. وإنما اعتمادهم لتلك المدارس والمناهج النقدية الأجنبية في قراءة نصوص عربية مُعاصرة وحتى أحياناً نصوص تمّ انتاجها في أزمنة بعيدة، في حين إنّ الاتجاه أو المنهج النقدي الذي يدرس من خلاله الناقد العربي العمل الإبداعي المحلي يكون قد فقد صلاحيته اليوم عند هؤلاء الأجانب الذين ابتكروه، بعد أن وجدوا فيه الكثير من العيوب والنواقص..
في محاولات التصنيف
فحتى وقتٍ قريب؛ كان ثمة من النقاد من يتحدث عن رمزية سعيد عقل، ورومانسية إلياس أبو شبكة ونديم محمد، أو واقعية فارس زرزور، وعن هذه اللوحة السريالية، أو تلك التكعيبية، وغير ذلك من محاولات التصنيف للإبداع.
لاشك أن الحديث عن المذاهب والمدارس الأدبية والجمالية، ظهر عربياً في زمن كان “التراث النقدي” غير كافٍ لمعالجة التجارب الشعرية الجديدة، على ما يرى الأديب محمد سعيد حسين.. ويُضيف: إنه بسبب نمو التنظير الغربي النقدي للمدارس الأدبية وقيام النُقاد العرب بمتابعة ترجمة هذا التنظير؛ تأثروا به، وتحدثوا عن الشعراء العرب، وصنفوهم وفق المدارس، وحيث كان الشعراء يخضعون لمقولات هذه المدارس ويُراعون في قصائدهم مقولاتها، فجاءت الكثير من القراءات وحتى الكثير من الكتب النقدية تحت بند “التصنيفات” أكثر منها أبحاث في النقد، وهنا نذكر في هذا المجال نقد محمد مندور في مُعظمه، وبرأي الأديب حسين ربما حدث ضياع في انتساب الأدب لأي مدرسة إبداعاً ونقداً، وتحوّل النقد –القليل اليسير- إلى قراءات سطحية وهامشية وساذجة نتيجة ندرة الناقد المُبدع وافتقار مُدعي النقد للملاءة الثقافية، وإمكانية التقييم والتقويم ونقد النقد، والنتيجة ثمة فوضى.
ما قيمة النقد الغربي على نص إبداعي عربي؟
النقد التذوقي
وإذا كان برأي الكثير من النقاد أن الحديث عن المدارس والمذاهب الإبداعية؛ انتهى لصالح أجناس إبداعية “تسربت” من هذه المدارس في ظل انتشار النقد التذوقي، أي النقد الانطباعي الذي يكون باعثه الذائقة، ومع ذلك ثمة من يؤكد من جهة أخرى؛ أن تلك المدارس التي مرّت عقود على انتشارها في أزمنة صارت اليوم بعيدة، لايزال تأثيرها مستمراً، وبرأي القاصة السورية راوية زاهر؛ فإنّ الأجناس الأدبية بتعددها تنتمي بشكلٍ أو بآخر لهذه المدرسة أو تلك، وفكرة المدارس الأدبية أساساً هي تعبير وانعكاس حضاري لفكرة التعددية –الفكرية– الإبداعية، وانعكاس صارخ بالوقت نفسه للتعددية السياسية التي قد تنشط في بعض المجتمعات كأحد تجليات الانفتاح، وتذكر زاهر: إذا دققنا في المئة عام الأخيرة؛ سنكتشف للأسف إنّ هذه المدارس الأدبية بمجموعها تقريباً نشطت إن لم نقل نشأت في المجتمعات الغربية الأكثر تقدماً: فكرياً، سياسياً، مدنياً..الخ.
أين اختفت التيارات الشخصية في الإبداع؟
وإن النتاج العربي الأدبي المواكب لهذه المرحلة ما كان إلا انعكاساً لتلك المدارس الخارجية أو بشكلٍ أدق –كانوا مجرد تلاميذ- اكتفوا بالانتماء إلى هذه المدارس، أو تلك، ولم يستطيعوا تأسيس مدارسهم الخاصة، رغم أنّ الأدب العربي القديم ولمن يُدقق في إعجازاته المتعددة؛ استطاع أن يؤسس لأهم المدارس الأدبية التي عرفتها البشرية، لكننا –كما نحن دائماً- خسرنا كل شي، واستطاع الغربيون حتى الادعاء أنهم فكر وأسس هذه المدارس التي صرنا ننتمي إليها.
والحديث عن المدارس الأدبية لا يختلف بالتأكيد عن المدارس الفنية وكل أشكال التعددية في الحياة.. تتعذر هذه التعددية أحياناً في مجتمع ما، لكن المبدع صاحب الهم والمشروع الإبداعي الأصيل يقوم بالتفتيش عنها، ولا ينتظر أن تأتيه على طبقٍ من الفضة، وكمثال قريب، وإن كان من عالم الفن، عاصي ومنصور الرحباني، وعبد الحليم حافظ، ومحمد عبد الوهاب.. من أجمل المبدعين في عالم الفن، نهلوا وجربوا في معظم الطرق والمدارس الفنية، وفي النهاية شكّل كل منهم مدرسته الخاصة التي لم يستطع أحد من بعدهم رغم مرور كل هذه السنوات سرقة سحرها أو التخفيف من وهج هذا السحر، وفي عالم الفن التشكيلي يحضر فاتح المُدرّس من دون تردد.
شعرية الفرد
هنا يُمكن أن نقول إنّ الحداثة الغربية عززت شعرية الفرد على حساب شعرية الجماعة الأدبية، ولم يقتصر ذلك على الشعر فقط، بل تعدّاه إلى الأجناس الأدبية، وكل الفنون بما أتاح ذلك علم النفس منذ فرويد وعلم الاجتماع تعزيز “الأنا” الفردية في عالم ليبرالي صناعي أنتج إلى جانب تقديس الحرية الفردية، اغتراباً في الذات الإنسانية، وهكذا صار كل شاعر مدرسة بحدِّ ذاتها، ومنذ القرن التاسع عشر صرنا نجد في النقد الأدبي إشارات إلى شعرية هيغو أو رامبو وفرلين وغيرهم، وهذا ما انتشر مُتأخراً في العالم العربي، حيث صرنا نلمح بدءاً من سبعينيات الفرن الماضي؛ تشكّل مدارس وتيارات قائمة حول الشخص ذاته كأن نقول بالقصيدة الأدونيسية، أو الماغوطية، أو بقصصية يوسف إدريس، وقصصية زكريا تامر.
مناهج نقدية فقدت صلاحيتها تُطبق على النص العربي
لكن إذا ما تجاوزنا تلك التيارات التي نشأت بدءاً من سبعينيات القرن الماضي، نتساءل كيف اختفت تلك “التيارات والمدارس الخاصة” أيضاً؟! في مشهد يغلب عليه التشابه وكأنه يخرجُ من مُحترف واحد، لكنه أشبه بالصناعة الصينية السريعة العطب، أي ثمة غياب لما يُمكن أن نطلق عليه النخبة الإبداعية، وهذا ينسحب لمختلف مناحي الإبداع والسياسة والاجتماع والفلسفة وغير ذلك..
والناس راجعة
وعلى ما يذكر الدكتور جهاد عطا نعيسة: “ألاحظ إسراف بعض المشتغلين في الحقل النقدي في الاحتفاء بهذا المنهج النقدي أو ذاك، بهذه المدرسة الأدبية أو تلك، احتفاءً استلابيّاً مؤشره ترديدٌ دائمٌ، شفهيٌّ وكتابيٌّ، لأهمية “منهجهم” المُتبع، ونتاجٌ نقدي متواضع جداً، يكاد يكون في جملته تطبيقاً درسيّاً للمنهج المذكور ليس إلا.”..
ويُضيف د. نعيسة في كتابه (في الرواية والقصة القصيرة– بحوث وقراءات) الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب: في هذا الوقت يُلاحظُ فيه هجرة غير قليل من أقطاب النقد الغربيين لمدارسهم ومناهجهم إلى مدارس ومناهج أخرى، منددين بمنهجهم السابق، أو لافتين إلى أهميّة النقد القديم الشائع قبل هذا الانتماء.. ويذكر أمثلة كثيرة عن هذه الظاهرة.. فهذا هو رولان بارت الباحث الجمالي الفرنسي البنوي (1915 – 1980)، يقول مُعرّضاً بالبنوية ونموذجها العاملي وحضورها المعرفي والنقدي، فيما هو ينتقل إلى السيمائية، ثمّ إلى التفكيكية: “تحشرُ البنوية أحداث العالم في حبة فاصولياء”، وأما المنظّر الأمريكي جيفري هايمان فيجهر في كتابه (التحليل النفسي وسؤال النص)، بحنينه إلى النقد الانطباعي ونجاحاته الباهرة.. من هنا يؤكد د.نعيسة “أن استباق النص الإبداعي بمنهجٍ ناجز، وجاهز للتطبيق مع كلّ نص، بغض النظر عن مستواه الفني، هو تدميرٌ حقيقي للروح الإبداعية في الأدب والفن، وخاصة حين يستحيل النقد سلسلة من الخطاطات والرسوم التوضيحية والجداول التصنيفية المسئمة.. ذلك أنّ الناقد الكفء ما كان يوماً، ولن يكون مجرد تلميذٍ نجيب يُردد في كل مناسبة دروساً حفظها عن ظهر قلب..
من هنا أيضاً؛ يختار د.نعيسة النقد الذي يستجيب لخصوصية وخصائص العمل الإبداعي، نقد قد يكون متعدد الانتماء المنهجي، كنقدٍ قريب مثلاً من “النقد التكاملي”.. نقد يلاقي “التكاملي” ويتفاعل معه، ويتجاوزه أحياناً، نقد تعددت تسمياته، وتوحد جوهره، منذ أطلقه داعيته الأول الأمريكي “ستانلي إدغار هايمان” في مؤلفه (النقدي الأدبي ومدارسه العديدة).. وذلك من خلال نص نقدي طالما سعى إليه –كما يذكر– يستنفر كلّ معرفةٍ مناسبة للخوض عميقاً في مكونات النص الإبداعي، نص نقدي هو حصيلة تفاعل جدلي خصيب بين صرامة العلم ورصانته وحيوية الفن وحراراته، نص نقدي يقف بندية وجنباً إلى جنب مع النص الإبداعي الذي يحاوره، فيقنع قارئه ويمتعه في آنٍ واحد..