فلسطين و«الفيتو» الأميركي والحاجة إلى إصلاح مجلس الأمن.. كيف بالإمكان أن يكون «إصلاحاً» متاحاً وعادلاً؟
تشرين- د. رحيم هادي الشمخي:
في كل مرة يتم فيها رفع «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي “وآخرها الفيتو الأميركي ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة الخميس الماضي”.. في كل مرة يتم رفع الفيتو تبرز مسألة إصلاح مجلس الأمن الدولي، وهي عملياً لا تكاد تغادر دائرة الضوء حتى تعود مرة أخرى مع كل حرب أو أزمة عالمية (وما أكثرها خلال العقدين الماضيين) لكنها – وفي كل مرة – لا تعود بالقوة الكافية أو الثقل المطلوب لإنجاز هذه المسألة أو لوضعها على السكة.
ورغم أن كل حرب أو أزمة عالمية هي من الخطورة العالية جداً وبالدرجة التي تسمح بأن تكون هذه المسألة أولوية، كون هذا الفيتو يعرقل كامل المهمة الأممية في حفظ السلام والأمن العالميين، وهو الهدف المركزي من قيام الأمم المتحدة ومؤسساتها جميعاً بعد الحرب العالمية الثانية.. رغم ذلك فإن هذه المسألة ما زالت تنتظر، علماً أنه كان من المتوقع وبصورة كبيرة جداً أن تساهم أحداث الشرق الأوسط ما بعد العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ حوالى سبعة أشهر، كان من المتوقع وبفعل المخاطر العالية جداً التي وضعت المنطقة والعالم على حافة حرب عالمية جديدة .. أن يتم طرح مسألة إصلاح مجلس الأمن بقوة، خصوصاً أن الولايات المتحدة الأميركية استخدمت الفيتو خلال هذه الأشهر السبعة أربع مرات في سبيل إدامة هذا العدوان وفي سبيل حماية الكيان الإسرائيلي من كل إدانة أو محاسبة. وتأتي هذه المرات الأربع للفيتو الأميركي رغم المخاطر العالية جداً آنفة الذكر والتي لا تزال قائمة بفعل أن العدوان على غزة ما زال قائماً بكل تداعياته الإقليمية.
ونحن إذ نتحدث هنا عن الفيتو، فإننا نخص أميركا بالدرجة الأولى باعتبارها صاحبة الحروب ومُشعلة الأزمات والاضطرابات، وفي كل مرة ينعقد فيها مجلس الأمن الدولي يكون بسبب أزمة أو حرب اضطرابات تقف خلفها، وفي كل مرة تستخدم أميركا الفيتو لعرقلة حل الأزمات وتسوية الحروب والاضطرابات إلا إذا كانت الحلول والتسويات كما تريد وتشتهي.
وإذ كنا نلاحظ في العقدين الماضيين كيف بدأت الدول التي تملك حق النقض تستخدم أيضاً الفيتو لردع العدوانية الأميركية ضد الشعوب والدول “على مبدأ الفيتو والفيتو المضاد” فإنه حتى في هذه الحالة لا بد من العودة إلى مسألة إصلاح مجلس الأمن الدولي، ولكن لماذا لا يتم تبنيها أو طرحها بالقوة الكافية أو الثقل المطلوب؟
الفكرة السائدة هنا أنه لم يحن الوقت بَعد، وأن المسار الصاعد لنظام عالمي جديد لم يصل إلى النقطة التي يُصبح فيها إصلاح مجلس الأمن عملية ضاغطة باتجاه حتمية التحقيق.. والبعض لا يسميها عملية ضاغطة وإنما «تحصيلاً حاصلاً» لنهاية هذا المسار وبحيث إن الولايات المتحدة لن تبقى في موقع السطو على قرار الحرب والسلم العالميين.
الفكرة الأخرى السائدة – المقابلة – أن ذلك المسار الصاعد لن يستطيع بالضرورة استبعاد الولايات المتحدة كلياً، فهي ستبقى قوة عالمية، وهو بالمجمل لم يُجاهر بأنه يريد استبعادها بقدر ما يريد أن يكون القرار العالمي تشاركياً وأكثر عدالة، وهذا يستدعي تمثيلاً جديداً مختلفاً في مجلس الأمن يأخذ بالاعتبار القوى الصاعدة ووزنها الإقليمي والدولي..
..هذه القوى التي لم تعد ترضى أن تكون خارج عملية صنع القرار العالمي خصوصاً أنها في هذه العملية مُستهدفة في صعودها الدولي وتحاصرها الضغوط (الأميركية تحديداً) للحؤول دون تبوؤها المكانة المتناسبة مع وزنها الجديد الاقتصادي والسياسي والعسكري..
قبل أن نكمل لا بد من لازمة توضيحية وهي أن مسألة الإصلاح حسب المطروح تتركز على ثلاثة محاور: زيادة عدد الدول الأعضاء – تعديل مبدأ حق النقض «الفيتو»- تعيين حدود صلاحيات المجلس.
هذه المحاور متصلة منفصلة في آن، أهمها طبعاً «الفيتو».. فمحور زيادة عدد الدول الأعضاء (الدائمين) يتعلق بالدرجة الأولى بحق النقض، إذ إنه يتركز بيد الأعضاء الخمسة الدائمين الذين يتمتعون بهذا الحق (الصين وفرنسا وبريطانيا وروسيا وأميركا) وهذا الأمر مرتبط بصلاحيات المجلس ومهمته التي أنشئ من أجلها وهي إرساء السلم والأمن الدوليين، بمعنى اتخاذ قرار الحرب والسلم وما يرتبط به من إجراءات، قبل وبعد.
الولايات المتحدة لا تعارض فكرة إصلاح مجلس الأمن، ولا توسيع دائرة الأعضاء الدائمين، أي منح مزيد من الدول حق الفيتو، ولكنها تريد منحه لحلفائها من الدول ومنعه عن الدول التي تصنفها في خانة العدو “والخطر القومي” وعن الدول التي تعتبرها حليفة لهذا «العدو». ومن المعروف أن إصلاح مجلس الأمن يتطلب تعديل ميثاق الأمم المتحدة، وهذا يحتاج إلى موافقة الدول دائمة العضوية والتي من بينها الولايات المتحدة.
لنوضح أكثر…
تدعم الولايات المتحدة منح مقعد دائم لليابان (للضغط على الصين) كما تدعم ألمانيا (بمواجهة فرنسا وبريطانيا وبما يسرع عملية تفكك الاتحاد الأوروبي).
(طبعاً الولايات المتحدة ليست وحدها في ذلك، فرنسا وبريطانيا على سبيل المثال تعارضان انضمام ألمانيا، وباكستان تعارض الهند، والمكسيك والأرجنتين وكولومبيا تعارض البرازيل، وكوريا الجنوبية تعارض اليابان.. وهكذا)
لكن الأهم هنا الولايات المتحدة وما تمارسه من ضغوط وابتزاز لفرض حلفائها، وإن كان ما سبق ذكره يُعقد أيضاً عملية إصلاح مجلس الأمن.
إذا كان الحال كذلك فكيف يمكن تحقيق عملية إصلاح مجلس الأمن، وكيف يمكن تجاوز الولايات المتحدة والفيتو الذي ستشهره حتماً لمنع دخول أي دولة إلى دائرة الأعضاء الدائمين إذا لم تكن حليفة لها؟
الإجابة التي تكاد تكون محل إجماع هي أنه لا يمكن تجاوز الفيتو الأميركي، وعلى الذين ينتظرون انهيار أو ضعف الولايات المتحدة في السنوات المقبلة أو ينتظرون اكتمال مسار صعود نظام عالمي جديد.. أن يكفوا عن الانتظار.. أو يحضّروا أنفسهم لانتظار طويل قد يستمر لعقود، مع ما يحمله من تطورات ومفاجآت قد لا تكون في مصلحتهم.. فما أفرزته أحداث الشرق الأوسط بفعل العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة – ولا تزال تفرزه – أظهر بأن الولايات المتحدة لن تسلم بسهولة، وأن لديها من الأوراق ما يكفي ويزيد لتساوم وتبتز، ولتفتعل المزيد من الاضطرابات والأزمات، ولتكون كل الدروب للحلول والتسويات تؤدي إليها بشكل أو بآخر.. كذلك أظهر بأن الولايات المتحدة ما زالت قادرة على إدارة كامل اللعبة العالمية، ما زال لها موطئ قدم في كل مكان حول العالم، خصوصاً في أكثر المناطق حيوية واستراتيجية، ولا يهم هنا ما يُقال عن ضعفها في هذه المنطقة أو تلك، إذ تبدو المسألة هنا مسألة أولويات بين هذه المناطق، تتغير حسب تغير الأهمية والتطورات التي تعلي من قيمة هذه المنطقة أو تلك بالنسبة لأميركا.
إذاً.. هل تبقى مسألة إصلاح مجلس الأمن عند مستوى التصريحات والدعوات فقط؟
أيضاً الإجابة التي تكاد تكون محل إجماع هي: لا.
ماذا يعني ذلك؟
يعني أمرين:
1- إما تشكيل جبهة عددية (غالبة) تستطيع فرض الإصلاح المطلوب، أو تستطيع مواجهة الولايات المتحدة في مجلس الأمن (ونحن نقصد هنا الجبهة المقابلة للولايات المتحدة).. علماً أن هذه الجبهة قائمة ومكتملة (ومُفعّلة) بفعل تطورات العقدين الماضيين وتضم أهم القوى الصاعدة وأخطرها بالنسبة لأميركا، ونعني هنا الصين وروسيا بالدرجة الأولى. وهذه الجبهة تضغط لتحصيل حقها في عملية صنع القرار العالمي، حرباً أو سلماً، وكونها مستهدفة بصورة خطيرة جداً من الولايات المتحدة التي لن تتوانى عن إشعال حرب عالمية جديدة، إذا ما اقتضى الأمر، في سبيل إسقاط هذه القوى.
2- .. وإما حرب عالمية ثالثة تسقط الأمم المتحدة ومجلسها الأمني كما حدث بعد الحرب العالمية الأولى (حين كانت عصبة الأمم).
هل في هذا مبالغة، أو لنقل عدم إجادة في قراءة الولايات المتحدة وما يمكن أن تذهب إليه؟
كثيرون يقولون لا.. (لا مبالغة) على اعتبار أن العالم يعيش فعلاً حرباً عالمية وإن من دون إعلان، وفي نهايتها سيتشكل نظام عالمي جديد، سيكون له منظمته ومجلسه الأمني.
ولكن متى، أي تقريبياً كم سيستغرق هذا من وقت؟
هنا المسألة الأساس.. لعبة الوقت كانت دائماً لمصلحة أميركا، وعليه كلما طال زمن ما يسمى المخاض الدولي لتشكيل نظام عالمي جديد كلما استطاعت أميركا أن تلعب بصورة أكبر على عامل الوقت، وبما يجعلها تكسب قرناً جديداً.. وهذا ما يجب أن تركز عليه الجبهة العددية/المقابلة/ لتصبح مسألة إصلاح مجلس الأمن الدولي مسألة متاحة من جهة، وعادلة من جهة ثانية.
أكاديمي وكاتب عراقي