التعاون بين «صحة الحسكة» وبين الأصدقاء الروس في تركيب الأطراف الصناعية يثمر بإعادة الفرحة إلى طفلة

الحسكة – خليل اقطيني:
فرحةُ فَرَح بالسير في موسكو لا تتسع لها الدنيا.. ليس لأنها موسكو؛ من أجمل عواصم العالم، الرحلة إليها وزيارتها ورؤيتها متعة لا تضاهيها متعة.. وليس لأنها المرة الأولى التي تسافر فيها إلى خارج سورية وعلى متن طائرة خاصة، لم يكن على متنها سوى هي وأمها، الأمر الذي جعل الشعور بأنها أصبحت من الشخصيات المهمة VIP ينتابها حينها. وليس لأي شيء في الدنيا، سوى لأنها أصبحت تمتلك طرفين سفليين، تستطيع السير بهما، وإن كانا صناعيين من صنع المخلوق لا من إبداعات الخالق.. لكن حتى ما هو صناعي إنما صُنِع بمشيئة الخالق، لأن الله سبحانه وتعالى دائماً ما يُسَخّر أناساً ليكونوا سبباً لمساعدة الآخرين ونجاتهم. ومن الأسباب ما قد يكون غريباً ونادراً، فيكون مثيراً للعجب، لكنه لا يتم إلا بمشيئة الله، وهو آية من آياته جلّ وعلا.

التفاؤل أساس الشجاعة

فَرَح تكاد تبلغ عاماً كاملاً مُقعَدَة من موسم قطاف القطن الماضي، حيث كانت في أحد الحقول مع عدد من سكان بلدتها الدرباسية، وعندما رأتهم قوات الاحتلال التركي، لم يَرُق لها أن ترى بعض السوريين سعداء بجني محاصيلهم، كونها أحد عوامل صمودهم في وجه الاحتلال والإرهاب، فقصفتهم بوابل من القذائف، أدت إلى استشهاد البعض، وبتر قدمي فَرَح، مع البعض الآخر الذي أصيب.

 

مبادرة الدكتور صيّوح.. تفتح آفاقاً واسعة لفاقدي الأطراف في الحسكة

ورغم هول المصاب تغلبت فَرَح عليه بالشجاعة، كما يخبرنا مدير الصحة الدكتور عيسى خلف وهو يسرد لنا حكاية فَرَح. التي لم تفقد طرفيها فحسب، من جراء العدوان التركي الغاشم، وإنما فقدت معهما القوة الناجمة عن القدرة على الحركة، لكنها لم تفقد الشجاعة فاستمرت في الحياة، فالشجاعة ليست أن تمتلك القوة للاستمرار، الشجاعة هي أن تستمر عندما لا تمتلك القوة. وهذه الشجاعة منحت فَرَح السعادة رغم تحولها إلى مُقعَدَة نتيجة فقدها قدميها، فالشجاعةُ من أسباب السعادة.
ولأن أساس الشجاعة هو الأمل، يؤكد خلف أن فَرَح لم تفقد الأمل، وبقيت واثقة بأنه النافذة التي ستفتح لها آفاقاً واسعةً في الحياة. كما ظلت مؤمنةً بأنها يمكن أن تعيش بلا قدمين، لكنها لا تستطيع العيش بلا أمل.

مبادرة الدكتور صيّوح

وكانت المبادرة التي أطلقها محافظ الحسكة الدكتور لؤي محمد صيّوح هي النافذة التي فتحت تلك الآفاق لفَرَح وأمثالها من فاقدي الأطراف في المحافظة.
ويوضح خلف أن هذه المبادرة أدت إلى التعاون بين مديرية الصحة في الحسكة، وبين الأصدقاء الروس في مجال تركيب الأطراف الصناعية، وذلك للاستفادة من الخبرة والإمكانيات والمؤسسات المتوافرة لدى الجانب الروسي، ووضعها في خدمة سكان المحافظة، ولاسيما أن مركز الأطراف الصناعية في مشفى القامشلي مازال حديث العهد خبرةً وإمكانياتٍ.
مؤكداً أن الأصدقاء الروس عبّروا عن سعادتهم بمبادرة الدكتور صيّوح، وأبدوا كل الاستعداد لتنفيذها، وأكدوا أنهم “على أتم استعداد لمساعدة الشعب السوري؛ لأنّه شعبٌ يحب الحياة، مثل الشعب الروسي، الذي لا يحب الحياة فحسب، وإنما يعمل على أن يكون من حوله سعداء”.
ويُبَيّن خلف أن أهمية هذه المبادرة تنبع من كون محافظة الحسكة تضم عدداً كبيراً من فاقدي الأطراف، لأسباب مختلفة، والأغلبية العظمى من هؤلاء، إن لم يكن كلهم، فقراء، لا تسمح لهم ظروفهم المالية وأوضاعهم المعيشية الصعبة بتركيب طرف صناعي، ومن شأن “مبادرة الدكتور صيّوح” أن ترفع هذه الأعباء عن كاهل هؤلاء المصابين، فهي كمن يبني جسراً من الأمل على نهر من اليأس، وهذه من أجمل الهندسات وأروعها في العالم. وتأتي تجسيداً لدور الدولة السورية الإنساني في رعاية فاقدي الأطراف من جهة، وتقديم الدعم اللازم للقطاع الصحي في محافظة الحسكة من جهة ثانية، وذلك من أجل رفع مستوى الخدمات الصحية التي تُقدم لسكان المحافظة، بشقيها العلاجي والوقائي، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على الواقع المعيشي لهؤلاء السكان.

الشجاعة تستحق الدعم

وأكد خلف أن التنفيذ العملي للمبادرة، انطلق مطلع آذار الماضي على أن تكون البداية بتركيب أطراف صناعية للأطفال دون سن السادسة عشرة.

الاحتلال التركي أفقد الطفلة فَرَح قدميها.. والأصدقاء الروس منحوها القوة الناجمة عن الحركة

مشيراً إلى أن الإجراءات التي تم الاتفاق عليها مع الجانب الروسي لتنفيذها، تتضمن استقبال الأطفال يومياً في العيادات المختصة في المركز الطبي في مدينة الحسكة (اللؤلؤة)، لمعاينتهم ودراسة حالاتهم، قبل عرضهم على اللجنة الطبية كل يوم خميس في المركز، وذلك تمهيداً لنقلهم إلى العاصمة دمشق وتركيب الطرف المناسب لهم، ويتحمل الأصدقاء الروس جميع التكاليف المالية من أجور التصنيع والتركيب للطرف الصناعي، وحتى نفقات السفر ذهاباً وإياباً والإقامة والطعام.

وإذا كانت ثمة حالات من الأطفال تتطلب نقلها إلى العاصمة الروسية موسكو للعلاج هناك وتركيب الأطراف الصناعية اللازمة لها، أبدى الأصدقاء الروس الاستعداد لذلك، متحملين كل النفقات المالية للطفل ومرافقه، من لحظة خروجه من بيته في محافظة الحسكة إلى موسكو والإقامة والطعام وتركيب الطرف الصناعي والتدرب عليه ومن ثم إعادته إلى بيته. وكانت فَرَح أول طفلة من هؤلاء الأطفال.
ويضيف: تقديراً لشجاعتها كان القرار بالإجماع أن نعمل معاً لدعم الشجاعة التي تمتلكها، عندما ناقشنا وضعها وحالتها الصحية والمعنوية مع الأصدقاء الروس. فتم إنجاز كل الأوراق الثبوتية اللازمة لسفرها هي ووالدتها بسرعة قياسية، بفضل اهتمام ورعاية محافظ الحسكة الدكتور لؤي محمد صيّوح، والتعاون المثالي لقائد الشرطة العميد محمد ياسر شيحة، وكل المؤسسات المعنية.
وتم تكليف مدير المراكز الصحية في مديرية الصحة الدكتور طلعت عزت، بمتابعة أوضاع الأطفال فاقدي الأطراف، والتنسيق مع الجانب الروسي حول تبني حالاتهم.

الشمس تشرق من جديد

ويخبرنا الدكتور عزت بأنه عندما التقى الطفلة فرح عدنان الخاير البالغة من العمر 14 عاماً لم يشأ النظر إلى قدميها، مراعاة لمشاعرها ولعدم إشعارها بالعجز ولمنحها جرعة من الأمل والتفاؤل. فالمتفائل هو من ينظر إلى العينين، والمتشائم هو من ينظر إلى القدمين.

بعد تركيب طرفين صناعيين لها.. فَرَح تخضع في موسكو لإعادة تأهيل على المشي

ويؤكد أنها عندما علمت أن الأصدقاء الروس تبنّوا حالتها، وسيقومون بتركيب طرفين سفليين لها، فرحت كثيراً وشعرت بأن إيمانها بأن الشمس ستشرق لها بعد الليل المظلم الذي عاشته، من جراء فقدها قدميها بسبب العدوان التركي الغاشم على بلدتها، كان إيماناً حقيقياً.
ويذكُر أنها عبّرت عن فرحتها بقولها: كنت طفلة مفعمة بالحيوية، ومع فقدي قدمَي فقدتُ النشاط والحركة، لكني لم أفقد الأمل، ما أسس للشجاعة التي جعلتني أرى في الصعوبة التي بِتُّ أواجهها فرصةً. وكلما رأيت أقراني من أطفال القرية يتحركون ويلعبون ويمرحون كنت أتوجع كثيراً، لكني كنت أتَصَبّر بالأمل، الذي كان في حد ذاته يوجعني في بعض الأحيان حين لم يكن لدي سواه، فالأمل كان ذروة اليأس الذي كان يعتريني. ولهذا وقفتُ على ناصية الحزن أنتظر الأمل. وعندما رأيتكم، أدركتُ أنه قادم إلي بفضل الصبر وحُسن الظن بالله؛ الذي لا يغلق أمامنا باباً إلا لكي يفتح لنا باباً آخر أفضل منه. وهذه الفرصة التي تمنحونني إياها ما هي إلا باب الأمل الذي فتحه الله لي على مصراعيه، ولهذا سأغتنم هذه الفرصة وأسافر للعلاج بدلاً من إضاعة تركيزي ووقتي وطاقتي على الباب الذي أغلق بفقدي قَدَمَي. وذلك لكي أنهض من جديد، لأنه إن لم أنهض أنا وإن لم تنهض أنت وإن لم ينهض هو  من الشعب السوري، من سيرفع إذاً مشعل الأمل في هذه الظلمات، ويصنع مستقبلاً أفضل لبلدنا، لأن المستقبل لا يملكه إلا أصحاب الأحلام الجميلة، وأظن أن أحلامي كانت جميلة رغم صعوبتها.. وأنا موافقة على خوض هذه التجربة، لأنه في الحياة لا شيء يجعلنا كباراً أكثر من التجربة.

جبالٌ من الأمل

ويؤكد عزت أن الاختيار وقع على هذه الطفلة بالذات لمعالجتها في موسكو لأسباب عديدة، أبرزها توافر المقومات اللازمة في بنيتها الجسدية والنفسية، فوضعها الصحي جيد، ما يمنحها القدرة على تحمل ضغط السفر والغربة وإعادة التأهيل، ومن يمتلك الصحة يمتلك التفاؤل، وهو الذي منحها جبالاً من الأمل لا مثيل لصلابتها، ومن يمتلك الأمل يمتلك كل شيء، والأمل والتفاؤل جعلاها تحوّل المحنة التي واجهتها بعد فقدانها قدميها إلى منحة، والتفاؤل الذي امتلكته فَرَح كان مصاحباً لإرادة قوية، ما يجعلها تخضع للعلاج وهي مُفعَمَة بالحيوية والنشاط.
وأضاف:إن من بين الصفات التي كانت تتمتع بها فَرَح “حُسْنُ الخُلق”، وهو أحد مراكب النجاة.
وبعد إنجاز كل الوثائق اللازمة، قام الأصدقاء الروس بنقل الطفلة “فرح عدنان الخاير”، التي فقدت قدميها بقصف مدفعي من الاحتلال التركي ومرتزقته، في طائرة خاصة إلى موسكو للعلاج وتركيب طرفين وتأهيلها، برفقة والدتها، وهي الآن في المرحلة الأخيرة من تركيب الأطراف الصناعية في  جمهورية روسيا الاتحادية، وهي مرحلة التأهيل والتدريب على استخدام الطرف المُرَكّب.

طرفان صناعيان

ويوضح عزت أن الأصدقاء الروس ركّبوا للطفلة فَرَح طرفين صناعيين؛ أحدهما لمنطقة ما فوق الركبة، وهو أكثر أنواع الأطراف الصناعية تعقيداً كونه يُستَخدَم لتعويض فقدان كامل الساق، إذ إنه مسؤول عن استعادة قدرة فَرَح على الجلوس والوقوف والتوازن والحركة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار