فنّ الوقاحة.. برنار هنري ليفي الذي تبنّى كلّ القضايا الملتبسة وتنكّر لأطفال غزة
تشرين- ادريس هاني:
لنترك جانباً ذلك المضغ والاجترار الذي تكرّر حدّ الغثيان، توحّده كلمة مفتاحية: المسرحية، في نشيد جماعي لكائنات مُسرنمة «ركلها حِمار الليل»، سُعارٌ دافعه تحديث الأحكام التقليدية وإنقاذ ماء الوجه، وحيث فقد الإمّعة رشدهم، فلنمضِ إلى ما يُشبه ذلك، إن لم نقل هو أصله في ملتقى استهداف الدّماغ بأفكار هي من جنس خرط القتاد.
ثمّة أكثر ما يجمع بين الاحتلال وبرنار هنري ليفي، فيلسوف «الرّبيع العربي»، الذي لم يُخْفِ موقفه قطّ من دعم الاحتلال وتبرير بطشه حتى في ذروة حرب الإبادة التي تشهدها غزّة، وللإنصاف، فإنّ بقايا جُند «الربيع العربي» تجاهلوا موقفه ذاك، لأنّ برنامجهم كان يسمح بهذا النوع من الوصولية التي خانها الوعي الإستراتيجي، وهنا علينا أن نُذكِّر بأن لا نأخذ تدفق استعمالات الفكر الإستراتيجي الذي انحدر في التداول العام حتى بات شكلاً جديداً من التدجيل السياسي، وكما في مذكِّراته الاستعراضية، فهو لا يزال صريحاً في إسناد الاحتلال، حتى أنّه سعى لعقد قران بين «الربيع العربي» والاحتلال، فبات بذلك معياراً للتمييز، يكفي أن يمدح أو يهجو لتعرفة اتجاه الموقف.
وفي مجلة «La règle du jeu» في عددها 81، يضع عنواناً لمقالة في شكل تساؤل: «لماذا لا أتغير في دعمي لإسرائيل؟»، وبالفعل هو كان شفّافاً حتى لدى أصدقائه في كل مناطق التّوتّر، لكنه في هذه المقالة أثار انتباهي إصراره على ذلك التصوير الفنّي الذي يجعل الاحتلال ضحية، بينما بات الشعب الفلسطيني غير وارد في المُعادلة، إنّه حقّاً وقح في قلب الحقائق، ووقح في انتهاك المفاهيم، فهو يقتبس مقولة لكافكا، فيرى أنّ «إسرائيل» مذنبة بإصرارها على البقاء، وفي هذا السّياق تتكثّف المغالطات، فيكون من الصعوبة على المتلقي الفرنسي الذي يُخاطبه أن يتتبع أساليب ليّ أعناق الحقائق، إنّ الاحتلال في هذه المقدّمة هو مذنب لأنه مصرّ فقط على البقاء، لنضع هذه العبارة على جبين كل احتلال حين يُثخن في دماء شعب يقع عليه الاحتلال، حين يخوض حرب الإبادة، لم يعد هناك تجريم للاحتلال، فقط لأنّ هذا الاحتلال ليس له مكانٌ يعود إليه، لأنّه انبثق من اللاّدولة، ومن الترانسفير الغربي.
يصرّح برنار هنري ليفي بأن مقالته هذه كُتبت قبل الهجوم الإيراني مساء يوم السبت، ويبدأ في سرد حكاية المتطوعين السبعة في منظمة أمريكية غير حكومية متخصصة في توزيع الطعام في مناطق الكوارث الطبيعية والحروب، قضوا جميعاً تحت غارة إسرائيلية على غزّة، فيمضي في تصوير المشهد، يا له من مشهد سوريالي، لقد قضوا في حرب يعتبرها غير متكافئة، لقد أذهلني هذا التسلسل، ظننته سيتحدث عن حرب غير متكافئة بين أهل غزة العزّل وجيش مدجج بأحدث الأسلحة الممكنة، فهذه الحرب هي فخّ، وهي غير متكافئة من جهة كونها بين جيش وطني كلاسيكي وبين إستراتيجيا الدرع البشري الذي اختاره من سمّاهم بالإرهابيين عديمي الرحمة.
المسألة في نظر «قوّاد» الأزمات، لا تقف عند التنكُّر لألوف الأطفال الذين قضوا بلا رحمة في حرب إبادة، بل ينسبها للإرهابيين، حديث برنار هنري ليفي عن المقاومة الشعبية التحررية على امتداد الربيع العربي هي شرعية بقدر ما المقاومة الفلسطينية إرهاب، ألم نقل يومئذ إنّ الربيع إمّا أن يكون فلسطينياً أو لا يكون؟ وطبيعي أن ندرك اليوم بأنّ انتشار شعار فلسطين ليست أولوية، لم يكن بريئاً، قلت لا يقف الأمر هنا، بل في هذا النّص، يفترض برنار هنري ليفي قارئاً غربياً، لا بل هي رسالة دفاع عن الاحتلال موجهة لصاحب القرار الأمريكي، وذلك حين سرد مجموعة من الأحداث الشبيهة، كلّها قام بها الجيش الأمريكي، لقد عدّ برنار هنري ليفي بأنّ مثل هذه الأخطاء لا يمكن إصلاحها، وذلك نظراً لخبرته.
إن الغرض من هذا الحديث هو تبرئة «إسرائيل» من جريمة قتل هؤلاء، شيء في نظره يحدث في كل الحروب، لم يذرف دمعة واحدة على ألوف الأطفال الذي قضوا عنوة تحت القصف الإسرائيلي، ومع ذلك يراها تُنجز مهمّة الحرّية، يُذكِّر برنار هنري ليفي قارِئه المفترض، بأن مثل هذا الخطأ وقع حين تم تدمير مستشفى أطباء بلا حدود في قندوز بأفغانستان عام 2015، في غارة أمريكية، ويتحدث عن قصف القوات الجوية الأمريكية لبيت في المنصورة في سورية أودى بحياة 150 شخصاً ، ويضيف مثال الغارتين الأمريكيتين اللّتين أودتا بحياة 47 شخصاً نساء وأطفالاً في حفل زفاف بخير خانا وغازي آباد، بالإضافة إلى 90 مدنيّاً ظنوا أنهم من طالبان، ويبدو أن برنار هنري ليفي يذكر واشنطن بأن ما قامت به «إسرائيل» كان خطأ ككل الأخطاء التي وقعت فيها القوات الجوية الأمريكية، ثم ينهي احتجاجه بالقول إن «إسرائيل» قامت بتحقيق، وأعلنت النتائج أمام الملأ وبأسرع ما يكون، وبما ليس له مثيل، وقامت بطرد الضابطين المسؤولين، بتعبير آخر، يريد برنار هنري ليفي أن يؤكّد بأنّ ثمة إجراءات شفافة وديمقراطية في حرب الإبادة، طبعاً لم يتحدّث عن ألوف الأطفال الفلسطينيين إلّا بوصفهم دروعاً، وكأنّهم في الخلفية السيكولوجية لمحامي الاحتلال، ليسوا أبرياء، ولكي يُكمل دفاعه أمام الرأي العام الفرنسي والمسؤولين الأمريكيين يقول برنار هنري ليفي:
«والآن، تتنامى الشائعات من تغريدة إلى إعادة التغريد، ومن تقرير إلى افتتاحية: لا توجد سابقة لهذه المأساة، إنه ليس خطأ، إنه قتل، هذا ليس ضباب الحرب، هذا اغتيال مستهدف، ألم يقل الشيف أندريس، روح المطبخ المركزي العالمي، بنفسه، تحت تأثير العاطفة، إنها كانت طلقة متعمدة؟ إذاً، اهتز المجتمع الدولي، نبحت مجموعة من أصحاب الرأي، ودعا الحزب الاشتراكي الفرنسي، كما هو الحال بالنسبة لأسوأ الديكتاتوريات، إلى فرض حظر على الأسلحة للأمة الإسرائيلية الهشة، والرئيس بايدن الذي كان يفكر بالضرورة في 29 آب 2021 الرهيب عندما خلط جنرالاته في كابول بين زجاجات المياه واحتياطيات المتفجرات من الدولة الإسلامية في خراسان، أطلق صاروخ هيلفاير وقتل 10 أشخاص من بينهم 7 أطفال، لذلك استسلم الرئيس بايدن لأعصابه وأعلن أن ذلك كان خطأً كبيراً، والقشة التي قصمت ظهر البعير بسبب صبره ونقطة التحول حيث من الممكن أن ينكسر تحالفها التاريخي مع إسرائيل”.
إنّ ذنب «إسرائيل» في نظر برنار هو في تشبتها بالبقاء، هذا ظلم لا يُطاق، من هنا، يقول إنه لن يتغير، بل سيظل المحامي الإنساني نفسه عن حقوق الإنسان، نفس الشخص الذي كرّس حياته لقضية الإبادة الجماعية في أرمينيا ورواندا ودارفور، عن الشعوب المضطهدة، لكن بعد كلّ هذا، أين يوجد الشعب الفلسطيني في خريطة طريق الإنسانية لبرنار؟ إنّه فنّ الانتقاء، فنّ المُغالطة.
وهذا ما سيؤكده في لقاء تلفزيوني تعليقاً على الهجوم الإيراني، بأنّ هذه حرب يقوم بها من وصفهم بالعَجَزَة المعزولين من آيات الله، يكرر عبارة العَجَزَة، وفي الأخير يتمدّح بموقف بايدن «العجوز»، إنّه يقرّر في نهاية المطاف أنّ إيران تخوض حرباً إمبريالية ولكن في الطرف الآخر حُلفاء الحرّية، يصعب على برنار هنري ليفي أن يتمثّل دور ميشيل فوكو، مُلهمه في التموضع في قلب الأحداث، كفيلسوف تحرري، لكن لا يملك شجاعته، فالتحرر هنا هو الاحتلال في هذا الاستثناء، الذي تتغيّر فيه المعادلة: أساطيل الغرب في المنطقة في مهمّة خيرية، فتُصبح المقاومة إمبريالية، وكلّ شيء ممكن في ذهن خرتوت الثورات الملوّنة، محامي التحرر لم يقرأ ملامح التحرر الوطني على جباه الأطفال، هذا في الحقيقة ما لا يُطاق، هذا يدخل في فنّ الوقاحة.