معركة تفكيك الأساطير
تشرين- ادريس هاني:
تعجز المستقبليات عن التنبُّؤ بمآلات الحرب والسِّلم إلّا مُسامحة في التقييم ومجازفة في الاستشراف، فالحرب موصولة بشروط مركوزة في الطبيعة البشرية، وإنّ احتدام الصراع في غرب آسيا لهو في أصله اشتباك بين طريقتين في إدارة الحرب، وبين مزاجين في التّلقّي، فبين إيران والغرب صراع قديم، الغرب البيزنطي واليوناني مع فارس، ربما تم التعبير عن وجه من وجوهها من خلال فيلم «The 300 Spartans»، حرب في عمقها حضارية، وإن كان هيغل لم يرَ في فارس نهاية حدود الغرب، أي ليست إيران هي الشرق العميق، بل هي واقعة في تخوم الغرب، هي تشبهنا – أي الغرب –ولكنها ليست جسراً حضارياً بين الشرق العميق والغرب العميق، كما ذهبت النظرية السياسية الرابعة لالكسندر دوغين، النظرية التي رسمت أُفقاً للدور الحضاري لروسيا كبرزخ بين شرق وغرب لا يبغيان، برسم نظام عالمي جديد قوامه التعددية وتهامس الحضارات.
يبدو أنّ ظاهرة القوة في العلاقات الدولية تعاني من سوء فهم كبير، والغرب تحديداً لم يستوعب حدود القوة ودالّتها دراسة مشتقاتية رياضية، لأنّ الهُيام الأسطوري بالقوة فاق شروطها المادّية، حيث أصبحنا إزاء وضع ميكانيكي للقوة تنطبق عليه قاعدة القصور الذاتي، وذلك بعد التغيُّر الذي طرأ على مفهوم القوّة وعلائقها، وحين بات الإطار الإرشادي للحرب الما- بعد حداثية، حربا يتشابك فيها العسكري بالمدني – في مقاربة برتراند بادي- الواقعي بالسيبراني، لم تعد قادرة على ضمان استمرار التّفوق والهيمنة.
صممت إيران بطريقتها، على تقويض مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي بُني على تمنّيات كثيرة، واحدة منها تحجيم دول المنطقة لصالح الحلفاء والمحاور، ومن تجلّياته تصفية القضية الفلسطينية، تعديل صورة احتلال عبر عملية تجميل سوريالية، تفكيك المنطقة وتجزيئ المُجزّأ من الدّول العربية، هو شرق أوسط جديد في ضوء خريطة برنار لويس، والحقيقة، كان مشروع حرب مكتملة الأركان.
شكلت فكرة الشرق الأوسط الجديد واحدة من الأساطير المستحدثة في السياسة الدولية والإقليمية لتعزيز الهيمنة التقليدية على الشرق الأدنى والأوسط والأقصى بالتبع، في تلك الأثناء، أدركت إيران أنّها المعني الأوّل بهذا التحدي، فبنت ترسانة دفاعية وصلت حدّ الاكتفاء الذاتي في مجال التّسلح، مستفيدة من درس الحصار وحرب الثماني سنوات، دخلت طهران نادي الصناعة الحربية بكل مستوياتها بما فيها مجال الأسلحة الذكية، وهي اليوم في وضعية متقدمة مقارنة بالسنوات الأولى التي تلت الثورة، ومع أنّ الغرب يُقدّر حجم القدرات الصاروخية والمسيّرات المتطورة بالإضافة إلى الإدارة السياسية للحرب في تشابك علائق دولية، مع أقطاب جديدة على استعداد لخوض معارك ما قبل النظام العالمي الجديد، على الأقل قوتان تملكان قرار حقّ النقض في مجلس الأمن الدولي، وتُراهنان على إطلاق رصاصة الرحمة على نظام عالمي تجاوزته استحقاقات ورهانات الحاضر، هذا، بالإضافة إلى الجهوزية النفسية والمادية لخوض حرب طويلة النّفس والأمد، مع كل ذلك، كان الغرب يحاول عبر الحصار والعقوبات الاقتصادية عرقلة وتيرة التطور والنمو في إيران، بينما أدرك الغرب في العهد الأوراسي الجديد، أنه لا يمكن إيقاف وتيرة نموها نهائياً.
لقد تفادى الغرب الدخول في حرب مباشرة مع إيران، لكن وجهة نظر الاحتلال كانت مختلفة منذ سنوات، حيث شعر هذا الأخير، منذ سنوات بأنّ الغرب لم يعد قادراً على خوض معارك التّدخل المباشر في المنطقة، وحينها كانت حكومة نتنياهو قد اتخذت قراراً من جانب واحد لمواصلة عملية انتهاك قواعد الاشتباك من دون تنسيق، وفرض الحرب الكلاسيكية على الغرب، عبر الضغط وسياسة الأمر الواقع، كما يكفيه الإحالة على عقد فاوست بين الغرب والاحتلال.
مجازفة نتنياهو لا تُفسّر من زاوية اليمين المتطرّف فحسب، بل هو في الأصل سياسي براغماتي يدرك أنّ أزمته الدّاخلية هي من دفع به إلى حرب إبادة ضدّ أهالي غزّة، وحينما تورط في غزّة، أراد الهروب من غزّة إلى حرب إقليمية، إنّه مستعد أن يقايض خروجه من مأزقه السياسي بحرب عالمية ثالثة، سقط نتنياهو في رمال متحرّكة، فقد جازف بتوسيع مجال الحرب ليحرج الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن شعر بأنّ جدل المصالح قد يجعل من الاحتلال عبئاً ثقيلاً على كاهل الحلفاء، كما أراد نتنياهو توريط بعض الدول العربية في حرب إقليمية، نظراً لوجود صراع بارد من نمط آخر، فهو حتى برسم الشرق الأوسط لم يرَ فيه حلفاؤه شريكاً في مشروع الشرق الأوسط، ومع ذلك، فالرد الإيراني لم يمنح نتينياهو أي ورقة إضافية، بل ماذا لو لم يرد الإيرانيون؟
حوّلت إيران استهداف الاحتلال لقنصليتها بدمشق إلى ورقة تتيح لها حقّ الرّد، واستفادت من حجم الحرج الدولي الذي تسبب فيه الاحتلال بخرق أحد أهم المواثيق الدولية بخصوص القناصل، وبدأت بحرب الأعصاب التي شلّت الحياة الإدارية في فلسطين المحتلة، من خلال اتباع أسلوب تقطير الشمع، فكانت عملية الهجوم العقابي بمئات المسيرات وصواريخ كروز، المدروسة بعناية، تحمل رسائل ردعية أكثر من كونها معركة حاسمة، يمكن ذكر جانب من تلك الرسائل في الآتي:
– قبل إطلاق سرب الطائرات الانتحارية من دون طيار، تمّ حجز سفينة تابعة للاحتلال، تذكيراً بأنّ المعركة إن باتت مفتوحة، فسيكون أوّل حدث هو إغلاق مضيق هرمز الذي يمثل أهم ممرّ للطاقة في العالم، وفتح حرب مع إيران، لن تكون نزهة، وبالتالي، لن يتحمّل العالم إغلاق المضيق لسنوات قادمة، وقد يتسع الأمر وهو وارد، ليشمل غلق باب المندب، وشرق البحر المتوسط، وهذا ما سيتسبب في انهيار التوازنات الاقتصادية الدولية، ويجعل تمويل الحرب عبئاً على موازين تدبير الأزمة الاقتصادية، كم يا ترى سيبلغ ثمن البرميل الواحد من النفط حين يحترق هذا الممرّ.
– استفادت إيران من عملية استهداف عين الأسد قبل سنوات، أكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط، لتجدد رسالتها إلى الجوار، بأن استهداف القواعد التي تنطلق منها طائرات وصواريخ الحلفاء، أمر بات حتمياً.
– ليلة من قصف أعماق الاحتلال، استهداف قواعد داخل تل أبيب، والنقب، ومناطق أخرى، إخراج بعض القواعد العسكرية من الخدمة، هي رسالة محبطة، لأنّ دفاعات الاحتلال وراداراته لم تمنع المسيرات المنطلقة من داخل إيران، أن تمنعها من بلوغ أهدافها، وطبعاً يبدو أن بنك الأهداف لم يُستهلك كله، ولكنه اختبار للأسلحة الإيرانية.
– دشنت إيران عصر استهداف الاحتلال الذي عاش على ذُهان التّفوق، فهو يُقصَف ليلة كاملة تحت أنظار حلفائه.
ومهما رسمنا من سيناريوهات الحرب، الهواية الأثيرة لهواة التحليل السياسي، فلن نستطيع فهم جدل الصراع فيما أُجمل العلم به واحتُمِل، ففن الحب هو فن التعامل مع الاحتمالات، ليس باليقين الساذج، ذلك لأنّ عنصر المفاجأة وردّ المفاجأة يتم في زمن موضوعي لن يحيط به من لا عهد لهم بالحرب، نعم، نستطيع التّنبؤ بما هو جامد في طبيعة الصراع، فيما تؤكده العناصر الثابتة في الموجات الأقصر، وكذلك بما هو حتمية جغرافية وطبيعة بشرية، بلد إن فُرضت عليه الحرب، فلن تنتهي إلاّ بتغيير جذري لقواعد الاشتباك وملامح المنطقة، فحتى الآن استطاعت إيران تحييد القواعد العسكرية الأجنبية، وإيقاف تحليق طيران الاحتلال فوق غزة خلال ليلة بكاملها، لم تترك إيران خلفها أي موقف مناهض للقانون الدولي، لأنّها مارست حقّ الرّد طبقاً لمبادئه.
صمدت إيران في حرب الثماني سنوات، بسرب من المتطوعين الشباب في كامل جهوزيتهم النفسية، من دون جيش نظامي ولا ترسانة كافية، ما عدا إيمانها بثورتها، واستمرت الحرب المركبة بلا هوادة من كل الأطراف، حرباً مادية ومعنوية انتهت برسم صورة نمطية فيها من المُبالغة ما لا يطرق آذاناً واعية، وما زالت سارية حتى اليوم، حيث لا زال هناك من يستكثر على إيران قصف الاحتلال بكل رباطة جأش، وما زال التشكيك جارياً في حقيقة ما يجري، نظراً لرسوخ المواقف الطائفية وتغلغل الصورة النمطية إلى حدّ تقبل أسمج الأساطير حينما يتعلق الأمر بإيران، في السلم والحرب، لم تُفطم البشرية من العلف التضليلي والمواقف الإسقاطية والتسقيطية المشوشة على موضوعية الحدث، الذي جعل الحرب على إيران تتجاوز المعطيات الموضوعية ومنطق الحرب، غاب فيها رصد حجم المصالح والمعطيات الموضوعية لهذه الحرب، فالهيمنة على الشرق الأوسط وعموم غرب آسيا هو مطلبٌ غربي قديم، هذا هو جوهر الصراع، والبقية صورة نمطية وعلف تضليلي.
قبل أن تصل المسيّرات والصواريخ، سعت أصوات كثيرة للتقليل من أهمية ذلك، وواضح السبب، فهم يقومون بتقييم استباقي لكيلا تنهار كل القراءات السابقة التي كانت تبني على العلف التضليلي ذي المرجعية الطّائفية، التي تقوم على عدم الإنصاف والموازنة، المطلب الشرعي لِسُلالة الطائفية المُدلِّسة، والتي تقوم على عقيدة عدم الموازنة، فالمطلوب لدى هذه الشريحة هو المضي في التجريح إلى أقصاه وعدم الاعتراف بأي موقف مهما كان جديراً بالاعتراف، لقطع الطريق على أي ميل محتمل، هذا الموقف أورث هذا النمط الكثير من فظاعات التحليل واستغباء العالم، حين بدأت أحداث 7 تشرين الأول، انقسم هذا المعسكر إلى قسمين في الهرطقة:
– قسم اعتبر ذلك لعبة مسبقة بين الاحتلال وإيران، وأنّ الأمر محض مسرحية: لم يخبرونا توثيقاً إن كانوا أعضاء في كتابة السيناريو، لكنهم يستهبلون العالم بخيال يستخفّ بالمتلقي وينصب على الحقيقة.
– قسم عدّ أنّ الهجوم ليس في المستوى المطلوب، وقلّلوا من أهميته، قبل أن تصل الصواريخ إلى أهدافها المفترضة، هؤلاء يزعجهم أن تنتهك الوقائع كلّ أحجياتهم، لأنّه يزعجهم أن تصنع إيران المفارقة، ذلك لأنّهم لم يُخلصوا الموقف لعدالة قضية، بل رأوا فيها موضوعاً تعويضاً عن مرض البرلهارسيا الطائفية المزمن، وهؤلاء خارج التاريخ مهما تلوَّتْ عريكتهم ولغوا لغواً كُبّارا.
لقد قام الأهالي داخل الأراضي المحتلة برصد صورة الهجوم بأجهزة الهاتف النقال وبعضهم التقاطات بالسيلفي، ونقلوا الصورة من منطقة لأخرى، كان الهجوم مباشراً، أفحم صورة من مردوا على التشكيك بوسائل في الإقناع بليدة، بينما المعنيون بالأمر داخل الأراضي المحتلّة نقلوا الخبر اليقين..
قسم من هؤلاء كان قبل يستعظم أي لقلقة لسان ضد الاحتلال ويصنع منها مجداً تاريخياً، لكن هجوماً وُصف بالتاريخي، يتم تصويره من قبل الشريحة نفسها بأنه ليس مهمّاً، ولا ندري ما هو المهمّ بالنسبة لأولئك الذين ليس لهم عهد بالحرب، سوى ألسنة الحرباء اللاّقطة للحشرات؟ العقل الذي ينتج التهويل هو نفسه الذي ينتج التهوين، هما وظيفتان متكاملتان في عملية التدليس، إنّ الهجوم الأخير بلحاظ المسافة والتعقيدات التقنية والحربية والسياسية، هو رسالة ردع، وتفكيك لأسطورة لم يجازف أحد للقيام بها، لا يمكن للاحتلال أن يستمر من دون أسطورة التّفوق واحتكار قرار الحرب.
المُصابون بعمى الألوان لن يروا كل هذا، لأنّ شيطان الطائفية أمات فيهم ملكة الإنصاف، يخشون من تفكك أساطيرهم وأضاليلهم، هم من كانوا ضدّ القوم منذ ما سمّوه بالدفاع المُقدّس، هم الذين لم ينسوا كما لم ننسَ كيف كانوا “يشمتون” في قتلى وشهداء الجمهورية، في محطّات كثيرة، ولم يعدلوا عن هذه المشاعر الظلامية والعدوانية التي أكسبتهم بلادة ونطّاً بين السعادين، ولأنّ قسماً منهم يدرك ذلك، فهو يوثر أن يفتعل مُبررات من سنخ خياله، لكيلا يُعلِّل الأمور من عِللها البعيدة والقريبة.
مشكلة الإنصاف والوفاء، يُحدِّثنا عنها الهدهد في منطق الطير، حين قال: الإنصاف أساس النجاة، ومن يتصف به ينجُ من التُّرّهات، في منطق الطير، والقول للهدهد دائماً، بأن إنصافك إن بلغ حيز الوجود، كان أفضل من عمر مديد في الركوع والسجود.
إنّ ما حدث مهما بلغ اعورار ردود الفعل، هو دفاع عن القانون الدّولي، ووقوف في وجه الهمجية والإبادة والاستهتار بالمواثيق الدولية، لم يستطع الغرب الملزم بعقد فاوست مع الاحتلال أن يصدر موقفاً أمام هذا الخرق الخطير، بل كان ذلك الردع في صالح المنطقة التي أصبحت مستباحة للاحتلال والتدخُّل والإبادة والتجزئة، بقدر ما كان يخدم التوازن الدّولي.
إنّ المعركة الأخيرة، لم تكن تفكيكاً لأساطير احتلال جرّأَه التفوق لانتهاك كل المواثيق الدولية والقانون الدولي الإنساني فحسب، بل كانت تفكيكاً أيضاً لمن مرضوا بعمى الألوان، واكتفوا بالنخاع الشوكي بدل الدّماغ في قراءة الحدث، والنوايا السّيئة بدل فِراسة المُؤمن في حدس الحقيقة في نفس الأمر، ولله في خلقه شؤون..