في إلحاحية السؤال الأنطولوجي.. أي معنى لتكامل العلوم؟

تشرين- ادريس هاني:
أدركت منذ فترة ليست بالبعيدة، أن لا جدوى من تدبير أزمة العلاقة بين العلم والمعلوم، بمُجمل ما يحبل به الفضاء العمومي من «لُتيّا واللّتي»، من تجاهل النكات المزمنة في تاريخ العلم، إذ إنّ شيطان الجهل يكمن في التفاصيل، وإنّ الإمساك بلطائف ميكروفيزياء المعرفة، وحده الخطوة الناجعة والخَطْوُ السريع على طريق مُلامسة المخارج الممكنة، لأنّ ما بات يُعرف بالفضاء العمومي، إن هو إلاّ مستنقع من الفوضى تُرتهن إليه العقول بخفّة مُشعوذ.. إنّ إلحاحية السؤال الأنطولوجي لا مفرّ منها، وهي لعنة لن يفلت منها مستقبل المعرفة، فالعالم يتطوّر في شروط علمية محكومة بأُطر معرفية لا فكاك عنها، ولكن ليس هناك تطوّر للعالم في شروط أنطولوجية.
إنّ إمكانية عُروض الجهل على الغرض، تفقد العلوم الامتياز عن بعضها، وذلك ناتج عن ضرورة العلم بما به الامتياز بداهة، وهذه نكتة يطول التفصيل فيها، لكن خُذ منها ضرورة العلم بما به امتياز كلّ علم، وقد حطّت الراحلة على مُختار القول بتحقق التمايز في العلوم بالغرض، وأصل المسألة هنا دفع المشهور من أنّ التمايز إيّاه يحصل بالموضوع، فإن سلكنا هذا المسلك، وأقررنا بأنّ موضوع العلم هو موضوع مسائله، وأنّه الجامع بينها، إذاً لباتت مسائل العلم علوماً قائمة بموضوعاتها الجزئية.
واضح أنّ تأثير الموضوع لا يشترط العلم به حين قيام المؤثرية، بخلاف العلم بالغرض الذي تتوقف عليه المحفزية لقيام العلم، فتلتقي العلوم في الموضوعات، لكنها تختلف في الأغراض، أقول: وبما أنّ الأغراض ثابتة في تعيين أسباب قيام العلم، وأنّ الموضوعات متغيرة، منها المعلوم ومن غيره إلى أن يظهر، فإنّ علاقة العلوم فيما بينها من داخل هذه النكتة، لا تقف فقط عند الاشتراك في الموضوع، بل حتى الأغراض تتجاوز، برسم العبر-مناهجية، الغرض الخاص إلى الغرض العام لوحدة العلم، بل الغرض الأكبر الحاكم على كل الأغراض التي تمثل شواغل الوجود المتداني للعلم، لنقل بتعبير هيدغر، حدود معرفة الدازين، أجل، الغرض الأكبر الذي يفرض ضرورة تكامل العلوم وخرق التخوم بينها، هو الغرض الأنطولوجي، المستبعد، ليس في الشاغل الميتافيزقي فحسب، بل مستبعد من الشاغل الإبسيمولوجي أيضاً، فمقتضى أن تكون المعرفة عين الوجود، باعث على ضرورة قيام ما يمكن أن نصطلح عليه: الحاجة إلى أنطو-إبستيمي، وهو المقصد الأسمى للعبر-مناهجية، يفك عن «الدازاين» فصامه النكد، لأنّ الفصل بين العلم والمعلوم وإن فرضتهما أزمة انحراف مسار المعرفة عن الوجود، تظل كامنة في الأمر نفسه، ولها مؤثرية غير معلومة، فيصبح الجهل بتلك المؤثرية سبباً إضافياً في شطط العاقل وحيرته، فمؤثرية العلمي تأخذ الأذهان خارج مقتضيات مؤثرية الوجود، فيحصل الصدام بين العقل والواقع، فالفصل التعسفي بين المعرفة والوجود يعزز من هشاشة المعرفة، بينما الوجود في حالة النسيان يواصل تأثيره في الموجود من دون أن تترتب على ذلك معرفة مُساوقة. هذا النسيان هو مبعث جمود العلم وهشاشته وحيرته.
تفاقمت ظاهرة تباعد العلوم واستقلالها بالتوازي مع إقصاء الغرض الأنطولوجي من كلّ شاغل معرفي، في أرخبيل إبستيمولوجي غير قادر على استيعاب جدل العلوم، وبالتالي العبور إلى الموقف الأنطولوجي.
أمّا من جهة الأثر، فقد باتت وظيفة العلوم وآثارها لا تلبّي طلب الفقر الوجودي، بل باتت وظيفة ناتجة عن انقلاب في الأغراض، استيلاب العلم في مسائله.
يتوقف العلم إذن على العلم بأغراضه، وليس في هذا تسلسل، بل هناك كاشفية لأمر له دور في العلم: الإرادة، فالدعوة إلى تكامل العلوم لا يمكنها أن تكون دعوة في شروط تجاهل الوجود، فهذا التكامل صيحة في واد، حين نتجاهل الغرض الأكبر الحاكم للأغراض الجزئية بما فيها الغرض الجامع للعلم المخصوص.
سيعود الأمر كما بدأ، لأنّه إعلان تكامل من دون معرفة بالغرض، فيصبح الشاغل ليس ما تمتاز به العلوم، بل ما يجمعها، بل ما يضعها في سكة إعادة اكتشاف علائقها المضمرة مع الموقف الأنطولوجي، فالعلوم ليست حقولاً للإقامة بل معابر وجسور إلى صقع الوجود الطازج.

إنّ مطلب التنوير اليوم، لا يمكن عزله عن المهمة التاريخية لاستعادة الوجود الطازج إلى شواغل المعرفة، وهو وحده يستطيع إعادة تعميد العقل الذي خرج عن السيطرة، عقل مستنفر في شروط معرفية مُستغلقة عن السؤال الوجودي.. حتى العقل هو اليوم موضوع تنوير على طريق انعتاقه من هيمنة الأُطر، التنوير هو قبل كل شيء موقف أنطولوجي، حيث العقل خارج شروط الانعتاق النطولوجي قد يُصبح أداة للاستقالة من الوجود، أداة للظلامية المُحدثة.. النظرة التجزيئية الناتجة عن الفصل بين المعرفة والوجود، تكامل العلوم لأغراض علمية غير مُستَحْضِرة لمعضلة الوضعية البشرية بخصوص السؤال الوجودي، يفتح متاهة في صلب الأزمة نفسها، حوار طرشان بين علوم عاجزة عن تجاوز حدودها نحو المنفتح الوجودي.. وأنّى لها تجاوز الحدود، وهي ما زالت عاجزة عن تصور موضوعات العلوم على ما كانت عوارضها بغير واسطة في العُروض، كما يقول رواد الأصول منذ أدركوا أن اتحاد العِلم والمعلوم لازمٌ لأصالة الوجود، وإن كانت آثار هذه الأصالة خدمت مداخل الأصول النظرية ولكنها لم تمض بعيداً في تهذيب مُستنبطات الأحكام ومُستنتجات القواعد، بما يحقق في الشريعة عبوراً سلساً إلى تجربة الوجود ونظارته، فتكون ذمّة المُكلَّف مشغولة بالموقف الأنطولوجي، وهو الغرض الأسمى من كلّ موقف أو حكم تكليفي.. فالمتشرعة لا تكتمل رتبتها من دون مُتعرِّفة ومُتموجدة، لأنّ مقتضى كون المعرفة عين الوجود استحضار هذه الغاية وذاك الاتحاد.. فلن تتكامل العلوم في سياق هذا التّشظّي الأنطولوجي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
شكلت لجنة لاقتراح إطار تمويلي مناسب... ورشة تمويل المشروعات متناهية الصغر ‏والصغيرة تصدر توصياتها السفير آلا: سورية تؤكد دعمها للعراق الشقيق ورفضها مزاعم كيان الاحتلال الإسرائيلي لشنّ عدوان عليه سورية تؤكد أن النهج العدائي للولايات المتحدة الأمريكية سيأخذ العالم إلى خطر اندلاع حرب نووية يدفع ثمنها الجميع مناقشة تعديل قانون الشركات في الجلسة الحوارية الثانية في حمص إغلاق الموانئ التجارية والصيد بوجه ‏الملاحة البحرية.. بسبب سوء الأحوال الجوية صباغ يلتقي بيدرسون والمباحثات تتناول الأوضاع في المنطقة والتسهيلات المقدمة للوافدين من لبنان توصيات بتبسيط إجراءات تأسيس الشركات وتفعيل نافذة الاستثمار في الحوار التمويني بدرعا خلال اليوم الثانى من ورشة العمل.. سياسة الحكومة تجاه المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والرؤية المستقبلية مؤتمر "كوب 29" يعكس عدم التوازن في الأولويات العالمية.. 300 مليار دولار.. تعهدات بمواجهة تغير المناخ تقل عن مشتريات مستحضرات التجميل ميدان حاكم سيلزم «إسرائيل» بالتفاوض على قاعدة «لبنان هنا ليبقى».. بوريل في ‏بيروت بمهمة أوروبية أم إسرائيلية؟