سياسة الدعم بإطار النهوض بواقع السوريين… أكاديميون يدعون لتحسين خدمات الصحة والتعليم لكونها استثماراً طويل الأمد
تشرين – بارعة جمعة:
“سياستنا انحازت للفقراء لكن إجراءاتنا أثرت سلباً فيهم.. والدعم هو عمل اقتصادي وليس عملاً خيرياً أو إيديولوجياً”، لعلها لم تكن مُصادفة تأكيد السيد الرئيس بشار الأسد ضرورة المحافظة على بناء المجتمع، بل وتقديم المزيد من الخدمات له، في إطار النهوض بواقع السوريين، وتأكيده العمل الجاد والمُستمر لتحسين واقعهم، بعد أن اكتسح الفقر أغلب مكونات المجتمع السوري، الذي بدوره فتح باب التساؤلات أمام الخبراء حول السبب وراء هذا التراجع الاقتصادي في فترة الاستقرار عكس الحرب؟، ودور السياسات الحكومية في هذا التراجع الذي لم يسبق أن وصلنا إليه؟.
مُسوغات التراجع
لا يتردد الكثيرين بالتشكيك بنسب الفقر المُعلنة في البلاد، إما لجهلهم في كيفية احتساب مُعدلاته، أو لرغبتهم في تبرئة السياسات الاقتصادية والاجتماعية الحكومية، إلا أن ما تحمله الحياة اليومية من مظاهر إنفاق وحجم ما يجري من تداوله من أموال في الأسواق المحلية، وقيمة الحوالات الخارجية، تؤكد قناعات البعض بعدم وجود نسب فقر بهذا الحد.
د. سيروب: الإنفاق على الصحة والتعليم ليس إنفاقاً جارياً غير مُنتج بل هو في الواقع إنفاقٌ استثماريٌ طويل الأمد
إلا أن للخُبراء وكل من يُتابع تطورات المشهد الاقتصادي رأياً آخر، لا يُنكر دور الحرب وتشابكاتها في ضعف الأداء الاقتصادي وإضعاف السلم المُجتمعي وفق رؤية الدكتورة في كلية الاقتصاد – جامعة دمشق – رشا سيروب للواقع، الذي لعبت فيه الحرب دوراً في تأخير التنمية، عبر قياسها تكلفة الحرب الاقتصادية والاجتماعية بعدة مؤشرات أهمها نصيب الفرد من الناتج المحلي الحقيقي ونسب الفقر، ليتبين أن التدهور الذي لحق به في سنوات الحرب العسكرية الأكثر ضراوة يتجاوز نسبة 52% بين عامي 2010 – 2015، كما ارتفعت مُعدلات الفقر من 8.5% إلى 18.8% خلال الفترة ذاتها.
تراجع مُستمر
إلا أن الغريب وفق قراءة الدكتورة سيروب لمراحل التراجع هو أنه وبالرغم من عودة الأمان للكثير من الأراضي السورية، استمر التراجع في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بأكثر من 13% بين عامي 2015 -2022.
وباعتبار أن الفقر والحرب مرتبطان بشكل وثيق برأي د. سيروب، فقد كان من المُفترض أن ترتكز السياسات الاقتصادية – خلال سنوات الاستقرار النسبي، على انتشال أكبر عدد من الفُقراء، لتجاوز خط الفقر الوطني.
الواجب الحكومي
هنا لا بُد من التذكير مُجدداً بأن الدور الاجتماعي للدولة يكمن في هويتها السياسية بالتدخل الإيجابي لمصلحة الشرائح الهشة في المجتمع وفق رؤية الخبير الاقتصادي عابد فضلية لدورها المُتمثل بتقديم الدعم الإنتاجي السلعي والاجتماعي المعيشي، بما في ذلك الرعاية الصحية والدعم الاجتماعي المجانيين، علماً أن بندي (الصحة والتعليم) قد وردا كهدفين من ضمن أهداف التنمية المُستدامة الـ 17، التي تم تبنيها من قبل جميع الدول الأعضاء في الأمم المُتحدة عام 2015، حيث نص الهدف الثالث على (ضرورة تمتع الجميع بأنماط عيش صحية وبالرفاهية في جميع الأعمار)، كما نص الهدف الرابع منه على (ضرورة التعليم الجيد المُنصف والشامل للجميع، وتعزيز فُرص التعليم مدى الحياة للجميع) وفق تأكيدات فضلية.
د. فضلية: ضمان تمتع المواطنين بـ(عيش صحي) وتعليم جيد هو واجبٌ حكومي بالدرجة الأولى يندرج تحت عنوان الدعم الاجتماعي .
كل ذلك يقودنا لنتيجة مفادها بأن ضمان تمتع المواطنين بـ(عيش صحي) وتعليم جيد هو واجبٌ حكومي بالدرجة الأولى، يندرج تحت عنوان الدعم الاجتماعي، الذي تعهدت الحكومة بتبنيه وألزمت نفسها به برأي فضلية، إلى جانب ما تبنته من أوجه دعم أخرى، طالت الدعم المادي والإنتاجي.
صحة وتعليم
العلاقة بين التعليم والصحة والنمو الاقتصادي علاقة طردية، حقيقةٌ تؤكدها جميع الدراسات وفق توصيف د. سيروب، أي (كلما ارتفع الإنفاق على الصحة والتعليم يزداد النمو الاقتصادي)، بينما هي علاقة عكسية بين الصحة والتعليم والفقر، أي (كلما انخفض الإنفاق على الصحة والتعليم يزداد الفقر)، وهناك حقيقة جوهرية وهي أن الإنفاق على الصحة والتعليم ليس إنفاقاً جارياً غير مُنتج، بل هو في الواقع إنفاقٌ استثماريٌ طويل الأمد، يؤدي إلى تقدم الدولة وضمان السلم المُجتمعي، كما أنها سلع عامة لا يجوز استبعاد أحد منها، وتوافر الخدمات للجميع يعكس بالضرورة مصالح جماعية للمُجتمع قبل الأفراد، فيما الحفاظ عليها هو من المسؤوليات الأساسية للدولة.
د. فضلية: الدعم الاجتماعي لقطاعي الصحة والتعليم يُعد ثروة مُجتمعية أكثر مما هو مكسبٌ فردي
توجه مقصود
إلا أنه ومنذ عام 2005 بدأ الحديث عن عقلنة وترشيد الدعم وإيصاله إلى مُستحقيه، ليبدأ على أرض الواقع التخلي الجُزئي والتدريجي عن هذا الدعم حسب قراءة الدكتور عابد فضلية لهذه السياسات، رغم تأكيدات الحزب في مؤتمره العاشر عام 2005 وإقراره اعتماد نهج اقتصاد السوق الاجتماعي مشروطاً بضماناتٍ قوية، من شأنها ترسيخ الجانب الاجتماعي لاقتصاد السوق المادي الحر، لذا – والحديث للدكتور عابد فضلية – مهما اختلفت التسميات والحجج والمسوغات في إعراب مسألة الدعم الاجتماعي، يبقى الاستمرار بهذا الدعم في هذه المرحلة ولو جُزئياً وبصورة أكثر ترشيداً وعقلنة من أهم السياسات المبدئية للحكومة، مُستندةً في خلفيتها إلى الفلسفة المبدئية الثابتة والمُستمرة للحرب، فالغاية من الحديث في هذا الإطار يتعلق بالحفاظ على صحة الفرد والمجتمع، وتأهيلهما بالتعليم، الذي يُعد ثروة مُجتمعية أكثر مما هو مكسبٌ فردي.