الميثاق العربي.. ما هي معوقاته؟
تشرين- إدريس هاني:
أخشى أن تكون نصوصنا وما يكتنف خطابنا عن الأزمات العاصفة بالإقليم، هي نقطة ضعفنا، تُمكّن الإمبريالية في تلاوينها وأجنداتها المتغيرة من فهم نوباتنا السيكولوجية الجماعية، لاسيما في طبيعة تشخيصنا المُفارق للأزمة، لاستشرافاتنا الهوجاء للمستقبل، لأحكام القيمة التي تخلط بين غرائز الفرد وخطط الدُّول، بين ما ينبغي أن يحدث وما تفرضه الشروط الموضوعية، بين ما نفعل وما نأمل.
إنّ العقل العربي المُنتظَم – هكذا الوجه الآخر للعقل من منظور أندري لالاند – بات ليس فقط منفصلاً أيما انفصال عن العقل المُنظِّم، بل بات مستنقعاً له يزيد في استقالته وسُعاره، لأنّه أخطأ استيعاب تركيب الواقع وتعددية آماده. وهو عنصر من عناصر الأزمة، ما يتطلّب مقاومة جالبات الجهل المُرّكَّب والتّخلف المزمن، للأمن القومي سياسياً واقتصادياً وبالجملة: وجوديّاً، ذلك لأنّ استبعاد الحسابات الوجودية من النظام الدولي، تجعل الحاجة جوهرية لأمن قومي أنطولوجي أيضاً، لكن العقل السياسي بما فيه الدولي لم ينضج بعد لاستيعاب الأمن الأنطولوجي، الشرط الأساس لقيام عدالة دولية وسلم عالمي حقيقيين..
جزء من الأزمة ضاربة الأطناب تتعلّق بوضعية النسق الإقليمي، عجزه البنيوي عن تحقيق مصالحه باستقلال عن استحقاقات التبعية. إنّ الوطن العربي شتات من مصالح تصل حدّ التناقض الذي يجلب التبعية والاصطفافات المتناقضة. وجزء من هذه الوضعية نابع من اشتغال قوى الهيمنة على التجزئة وبثّ النزاع وتصديره، وجزء منه نابع من سياسات الدول العربية، إذ كيف يمكن الحديث عن تعزيز العمل العربي المشترك وإحياء ميثاق جامعة الدول العربية، بينما هناك إهمال وتجاهل للقضايا العربية الدّاخلية، وللنزاعات العربية -العربية، لاسيما ما كان ملحّاً ويتطلّب حلولاً استعجالية، أي نقاش في الموقف العربي مع وجود معوقات من هذا القبيل، هو حديث غير جدّي، ولن يساعد على انفراج البنية المأزومة.
وما يحدث اليوم هو نتيجة حتمية لهذه الوضعية المزمنة، ونتيجة عقل منتظم، يُكرر مواقفه ويتغاضى عن شروط التّقدم في تدبير الأزمة، إنّ تجاهل العرب لما يبدو لهم تفاصيل صغيرة في مجمل أزماتهم، هو عنوان جمود وضعف وغياب الشجاعة في تصفير مشكلاتهم قبل الحديث عن عمل عربي مشترك.
في الخطاب الذي لم يعد يقدّم سوى تأوّهات من دون حلول استراتيجية حقيقية، نحن إزاء مندبة تشلّ إرادة الفعل الحقيقي، إنّنا نكرر شعاراتنا، ومنها ما هو موصول بالقضايا العادلة، وهناك شعارات فقدت رونقها وجاذبيتها.
ما زالت خطاباتنا تكرر عناوين زمن الهزائم والتناقضات الفجّة، ما زالت أيضاً خطابات مريضة بالعنف الرمزي الخاطئ. سياسة من دون علم سياسة، تآكل أدوات التحليل، شعبوية تحتل المشهد، معطيات خُرافية من أكياس التضليل، والباقي تستكمله خيمياء إعلام مرتهن لخطّ تحرير غير آبه بالمصلحة العامة، على العرب أن يحصوا عدد مشكلاتهم بما فيها الصغيرة والتفصيلية، ثم يكفوا عن ضرب أخماس في أسداس، ويكونوا شجعانا في الاعتراف، لأنهم من دون ذلك سيستمرون في الهدر الاستراتيجي.
إنّ بعض خطاباتنا هي مادة للتحليل النفسي أكثر مما هي مادة لبناء وعي استشرافي، إنّها خطابات مأزومة بقدر أزمة الوضع العربي، والهشاشة التي تنخر الخطاب لا تقلّ ضراوة عن تلك التي تنهش العقل، إنّ التحرر الحقيقي يبدأ من تحرر العقل المُنَظِّم، تحرر هذا الأخير هو رهين بتحرير العقل المُنتَظَم، للعُلْقَة الجدلية بين المنظم والمنتظم منه، تحرير العقل من ميراث ثقافة سياسة تسممت ردحاً من الزمن، وهي عاجزة عن خلق المفارقة في موقف شجاع ومبادرات تاريخية، حيث من دون شجاعة في التغيير والاعتراف، سيستمر البؤس السياسي العربي، فالجغرافيا السياسية متغيرة، أي نعم، ولكنها ليست وحدها تفعل فعلها التاريخي من دون مواقف ومبادرات.
كيف لبحر من العرب في هذا الإقليم، هم في حالة عجز عن فرض حقّهم في العمل المشترك، في سوق مشتركة، في دفاع مشترك؟ لماذا يخشون من بسط مشكلاتهم للنقاش بشجاعة وشفافية وإرادة سياسية حقيقية؟ لماذا نطلب حلولاً إقليمية في إقليم يتنازع داخلياً، غير موحد في مقارباته ومصالحه، ويواصل بعناد سياسة الطِّعان والتآمر البيني؟ متى تنتهي هذه المهزلة؟!.