تبسيطها يحقق مكتسبات ويجذب المغتربين.. قوانين منح التراخيص الإدارية بعيدة عن القاعدة الشعبية لمصلحة أصحاب الدخل المتوسط والمرتفع
تشرين- حيدرة سلامي:
يدخل الترخيص الإداري ضمن الوسائل الرقابية التنظيمية، التي يخولها المشرع للسلطة الإدارية بغية تنظيم بعض الحريات الفردية، بحيث لا تترك هذه الحريات على إطلاقها، في التأثير والتحكم بسوق العمل، حيث يبقى عليهم واجب التقييد بقوانين وأعراف السوق الوطنية، لكن من دون أن يكون في هذه القيود عبء على المواطنين، الذين ليست لهم القدرة على مواجهة هذه الضوابط بالحالة المعتادة.
والترخيص الإداري تعريفاً هو موافقة ومنح السلطة الإدارية المختصة صلاحية ممارسة بعض من نشاطاتها لمصلحة الأفراد، بهدف إدخالهم في السوق الوطنية، وتيسير حصولهم على مصدر دخل إضافي، وتأهيلهم إلى الدخول في مرحلة الاكتفاء الذاتي والاعتماد على ذواتهم، ثم تحقيق التنمية المستدامة.
الثروة بالعمل المنظم
يرى هذا المحلل الاقتصادي المشهور، في كتابه الخالد «ثروة الأمم» أن المصدر الأول لثروة الأمة ليس الأرض، أي ليس بالثروات المكتنزة داخلها من ذهب ونفط وحديد وغيرها، وإنما العمل المنظم، عمل الأفراد والمؤسسات الحكومية والخاصة ضمن الأمة.
لا بد من دراسة تشريعات منح وتقييد التراخيص الإدارية بطريقة لا تحرم فيها المواطنين من حرية العمل المستقل وفي الوقت نفسه تضمن حق الجهات المعنية بتنظيم وإدارة هذا العمل
وحسب وجهة نظر الكاتب، فإن ثروة كل أمة تقاس بإنتاجها، أفراداً وحكومة، وربط الإنتاجية بتقسيم العمل، واعتبر أن التقسيم المطرد للعمل إلى وحدات أصغر يسهل العملية الإنتاجية، ويزيدها كمياً.
فالعمل إذاً هو الذي يؤمن للأفراد حاجاتهم الأساسية، التي تبدأ من تأمين قوت يومهم، ثم الادخار في رصيدهم الاحتياطي، ولاحقاً إلى استثمار هذا الرصيد، من أجل الحصول على مصدر دخل جديد، أي باعتقاد عرّاب الاقتصاد، لا يكفي مصدر داخل واحد، على العموم وفي معظم الأحوال، لتأمين الحاجات الاستهلاكية للمواطنين، سواءً كانت مما ينتجونه بأنفسهم، أو يتبادلونه مع منتجات الأمم الأخرى.
ومن أجل أن يتم إطلاق رئة العمل، ومساعدة الشعب على السير في حياته بشكل طبيعي، لاسيما في هذه الظروف الخانقة، لا بد من دراسة تشريعات منح وتقييد التراخيص الإدارية بطريقة لا تحرم فيها المواطنين من حرية العمل المستقل، وفي الوقت نفسه تضمن حق الجهات المعنية في تنظيم وإدارة هذا العمل الذي يرتبط بمهامها الأساسية، أي تنتهي حرية الأفراد في العمل وكسب قوت يومهم، حينما تبدأ حرية الجهات الإدارية بضبط المجتمع لتحقيق الصالح العام على المدى الزمني القصير والطويل.. وذلك حسب مبادئ الفيلسوف الفرنسي موتنسيكيو، جيرالد دو سيكنده.
تحديات التشريعات القانونية
اليوم بات التشريع السوري والتشريع العالمي بأسره يواجه ضرورة قصوى في الإسراع بتطوير تشريعات وقوانين الترخيص الإداري، سواء كان في الاستثمارات الأجنبية أم المحلية.
اليوم يعد التضخم العالمي في النقد، والانفجار السكاني، وأزمة الطاقة، والحروب، والتلوث وغيرها، إحدى أهم علامات نهاية عصر المعيشة البسيط، الذي كان فيه الدخل الإداري للوظيفة كافياً لتأمين حياة الأسرة المتوسطة وكل مستلزماتها من تعليم وطبابة واستهلاك وغيره.. فالحياة صارت أكثر تعقيداً على الأفراد في تأمين احتياجاتهم، فلم تعد الحكومات على مستوى العالم قادرة على تأمين المتطلبات الأساسية من خدمات لمواطنيها، من تأمين التعليم المجاني، وتأمين الأفراد صحياً أو سكنياً، أو في حق الامتلاك وتوزيع الثروات بشكل متساو، أما عن الوضع الداخلي عندنا فليس من الممكن أو من الوارد أبداً أن تعتمد أي فئة من الأفراد على مصدر الدخل التقليدي (الوظيفة) في تأمين مستلزمات حياتها.
الشروط التقليدية في منح الترخيص الإداري
ويعاني التشريع السوري اليوم من جمود قوانين منح التراخيص الإدارية وابتعادها عن القاعدة الشعبية، حيث إنه يؤدي فقط الخدمة إلى أصحاب الدخل المتوسط والمرتفع، ويبتعد عن منح تراخيص المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر، الذي يعدها عبئاً على السوق، مع أنها الأولى بالعناية، وتتمثل الشروط التقليدية في منح التراخيص في بلادنا، بإيجاد عقار ومكان لمزاولة المهنة، إضافة إلى وجود شهادات أكاديمية معتمدة، عوضاً عن المهنية الخبيرة، وإمساك دفاتر مالية وقيود إدارية قد لا تتناسب وطبيعة وحجم نشاط العمل، ويعد إصدار القانون رقم القانون رقم /3/ لعام 2024 الخاص بإحداث وحوكمة وإدارة الشركات المساهمة العمومية والشركات المشتركة، إحدى أهم المبادرات الحكومية في محاولة إيجاد التوازن بين القطاعين العام والخاص في عملية تحقيق الإنتاج، إلا أنه أيضاً قد وقع في بعض النمطية، فكما يقترح اسم القانون، فإنه كان معنياً بتطوير الشركات المساهمة العمومية، والمشتركة، أي المشروعات الضخمة، وإخضاع هذه المشروعات الضخمة لنظام الحوكمة قد يتعارض مع التوزيع والإنفاق بشكل متناسب وصحيح بينها وبين المشروعات الصغيرة، التي ستكون قادرة على إحداث قاعدة دخل متواترة لمصلحة الناتج الاقتصادي العام، وهي كانت أولى بالدخول في نظام الحوكمة التجاري الجديد
إخضاع هذه المشروعات الضخمة لنظام الحوكمة قد يتعارض مع التوزيع والإنفاق بشكل متناسب وصحيح بينها وبين المشروعات الصغيرة
إيجابيات التسهيلات والتوسع في منح التراخيص الإدارية
يساهم التوسع بمنح التراخيص الإدارية في إدخال الأيدي العاملة في السوق الوطنية، إضافة إلى توفير فرص العمل لعامة فئات الشعب، (الكبير والصغير المتعلم وغير المتعلم)، وبذلك ينتعش الوضع الاقتصادي للكثير من العائلات ذات الدخل المحدود، وتتحسن الحالة المعيشية للمواطنين.. وهذا أمر إيجابي بالنسبة للقطاع الحكومي، حيث إنه يقوم بتخفيض عبء توفير الخدمات الأساسية، من طبابة وتعليم واستهلاك وسكن، وغيره.
فهناك الكثير من المشروعات التي تخدم هذه الأغراض كدور المعاهد التعليمية، ومشروعات استهلاكية محدودة التأثير، والمخابر الطبية الخاصة، ومشروعات سكنية، كالجمعيات المستقلة، وبذلك نحن نرى أن إطلاق القيود عن التراخيص الإدارية، صار مسألة تمس حياة المواطنين وحاجتهم الأساسية في الحياة الكريمة والعيش المشترك من دون المديونية.
ميزات تعديل قانون إصدار التراخيص الإدارية
بيئة الاستثمار من ناحية تكاليف التراخيص الإدارية تعد رخيصة جداً قياساً بدول الجوار، لكن المشكلة الحقيقية التي يعاني منها التشريع الإداري في جذب الاستثمار، هي الإجراءات المعقدة في منح التراخيص، حيث إنه وبالاعتماد على مصادر الدخل الخارجية بإمكان المغتربين تقوية ودفع عجلة الاستثمار بتكاليف ضئيلة للغاية إدارياً، لاسيما أن سعر السلع بالقوة الشرائية قياساً مع الدول المجاورة لايزال يسيراً من ناحية التكاليف، لكنه بالطبع ثقيل على المواطن داخلياً، وبتيسير الساحة الداخلية للمغتربين السوريين يمكن استقبال الاستثمارات الخارجية، كمصدر دخل شعبي وثابت، وفي الوقت نفسه تؤمن موطأ قدم عودة للمغتربين، ويجب باعتقادنا أخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار، والأخذ أيضاً بعين الاعتبار الصعوبات التي تضعها الدول المستقبلة للسوريين أمام مراجعة الدوائر الحكومية، وذاك يكون عن طريق فتح قنوات التحويل المالي وتبادل الوثائق الرسمية بطريقة أكثر سلاسة، مع الأخذ بعين الاعتبار أيضاً موضوع توفير المصارف الوطنية والقروض للمغتربين، الذين يعانون بسبب موضوع الجنسية، من صعوبات في ملف الاعتماد المصرفي الخارجي، ما سيشجع الكثيرين على إنشاء استثمارات جانبية، أو مصادر دخل إضافي في وطنهم الأم، بحيث لا يضطرون لاستنزاف كل مدخرات غربتهم داخل البلاد المستضيفة، التي هي تتطلب بالأساس رسوماً استثمارية عالية، لاسيما في البلدان التي كان لها النصيب الأكبر من استقبال السوريين، والتي توجد فيها رسوم عالية جداً على الاستثمار والمشروعات الفردية، الأمر الذي يجبر العاملين بحدود الأجور الأدنى على إنفاق كل ناتجهم المالي داخل دولة المغترب من دون أن يتمكنوا من استثمار أموالهم ضمن أي مشروع خارج الوظيفة، ما يهددهم بخسارة كل ناتجهم، من دون الحصول على فرصة الاستثمار الطبيعي خارج بلادهم كمغتربين.
أخطار عدم فرض الرقابة الرسمية على المشروعات الشعبية
لقد حذر سميث في كتابه المشهور من خطر ترك الاقتصاد الفردي يتحرك على هواه، بإدارة موارد الدولة من دون خطة مركزية، ومن وصايا آدم سميث أن يتم بناء العمل الفردي على التمييز بين نوعين من العمل، أحدهما العمل المنتج، الذي يحقق منفعة واستقراراً للأفراد، كإقامة مشروعات البنية التحتية السكنية والصناعية، والآخر يحقق نفعاً ومتعة سريعين، قد يوفر الكثير من فرص العمل، لكنه لا يضيف شيئاً إلى موارد المجتمع، ويدخل في هذا التصنيف الاقتصاد القائم على الخدمات، كالاقتصاد القائم على الخدمات الترفيهية والدعائية, أو التسويق البحت، ونذكر مثالاً على هذا النوع من التسويق، تسويق الشقق السكنية أو المتاجر، من دون أن يكون في ذلك أي تطوير للعقار والمقاولات على مستوى الجماعة.
وما يمكن أن نطلق عليه تسمية «اقتصاد الفقاعة» هو وصف لحالة تحدث عندما تتسبب المضاربة على سلعة ما بتزايد سعرها بشكل غير منطقي، وقتها يبلغ سعر هذه السلعة مستويات خيالية في تشبيه انتفاخ البالون، وللفقاعات الاقتصادية تأثير سلبي على حالة الاقتصاد، لأنها تسبب حدوث حالة التوزيع غير العادل للموارد باتجاه استخدامات غير مثلى، حيث إن الإنفاق على الخدمات الكمالية والترفيهية لا يحقق مورداً حقيقياً، إضافة لذلك الانهيار الذي يلي الفقاعة الاقتصادية يمكن له أن يدمر ويفني مقداراً كبيراً من الثروات، فعلى سبيل المثال قد تنخفض الرواتب التي تقدم للأكاديميين المحترفين في مجال عملهم، قياساً إلى مستوى غيرهم، ما يمكن اعتباره توزيعاً غير عادل للموارد يتوقف عليه لاحقاً انسحاب الأفراد القادرين على المساهمة في إنشاء الاقتصاد المستدام ذي الإنتاج الفعلي.
بيئة الاستثمار من ناحية تكاليف التراخيص الإدارية تعد رخيصة جداً قياساً بدول الجوار لكن المشكلة الحقيقية التي يعاني منها التشريع الإداري في جذب الاستثمار هي الإجراءات المعقدة بمنح التراخيص
وفي مثال آخر تظهر الفقاعة حجم المال والاقتصاد الداخلي، بأكبر مما هو عليه على أرض الواقع، فيفرض البائعون أسعاراً على سلعهم غير المضبوطة، أكثر بكثير مما هو موجود من مال في السوق، فإذا ما راقبنا سعر العقارات مثلاً فسنجد أن البائعين يفرضون أسعاراً خيالية أكبر من حجم الأموال الموجودة في الخزانة، ما يضطر المركزي في هذه الحالات لطباعة المزيد من الأصول المالية “الأوراق”، من أجل تجنب الوقوع في الكساد الاقتصادي، وتكدس البضائع مع نقص المقدرة الشرائية عند المواطنين.
وفي النهاية لا يسعنا إلا الأخذ بالقول المأثور لـ”آدم سميث” الأب الروحي للاقتصاد المعاصر، في مخاطبة الأفراد والحكومات، من أجل تفعيل نظام التعايش المشترك بين الطرفين، وهذا القول يحمل القاعدة الذهبية في عالم الأعمال والتجارة: “أعطني ما أحتاج وستحصل مني بالمقابل على ما تحتاج”.