في الرحلة الشّامية «5».. ضيوفاً على مكتبة الأسد
تشرين- ادريس هاني:
بدعوة كريمة من وزارة الثقافة بتاريخ 21-2-2024 بمنتصف النّهار من يوم الأربعاء، أقيمت ندوة الهوية والانتماء في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق، تم تأطيرها من قبل كلٍّ من عبد ربّه، ود. سناء، بينما الإدارة كانت من نصيب د.غزوان من مكتب الإعداد المركزي في القيادة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي.
وحضر الندوة عدد من القيادات الحزبية والأُطر الثقافية والسياسية والأكاديمية من وزارة الثقافة ووزارة السياحة والإعلاميين واتحاد الكتاب العرب ونقابة الفنانين، وعلى رأسهم السيدة لبانة مشوح وزيرة الثقافة، كما حضر بعض السفراء كالسيد السفير أندريه دوس سانتوس سفير مفوض فوق العادة لجمهورية البرازيل الاتحادية بدمشق.
تناولنا فكرة الهوية والانتماء من مداخل متعددة، باعتبار أنّ الهويات باتت مستهدفة لأسباب تتعلّق بالمعضلة العامة التي تشهدها الماهية الكونية للإنسانية برمتها، وارتداد الأزمة العامة على الهويات الخاصة، ما يؤدّي إلى حالة صدام بين الهويات القاتلة على حدّ تعبير أمين معلوف، وهو ما ينتج عنه قلق هوياتي عارم، لا فكاك عنه إلاّ بإعلان الهويات هواجس وأشباحاً أو لنقل أوهاماً، كما انتهى داريوشايغان وأتبعه في منحاه ومرماه بعض العرب كعلي حرب. هنا حاولت أن أرصد المعضلة في بعدها الأنطولوجي، وبأنّ مشكلة الهويات القاتلة وصدام الثقافات والهويات، نابع من أزمة أنطولوجية، لثقافة كونية تنهض على ضرب من الخواء الأنطولوجي، ثقافة يحددها الراسميل، اليد الخفية للسوق الحرة، منتج لكائن أنطو- قياسي، في نهاية المطاف هي معضلة عالمية، ويبقى حظّ الهويات القلقة على ركح المنظومة الثّالثية المهدورة، مرتهن للأزمة العالمية، الحديث إذن في سياق نظرية الصمود: صمود الهوية أصبح إلحاحياً في حركة التحرر العالمية من هيمنة مقتضيات السوق وتراجع الثقافة والمعنى والأنوسة التي أكثر العديد منها لتقويض الانتماء وفتح المجال للاّمعنى الذي معه نفقد كل شيء، الانتماء والتنمية والمصير.
لقد آثرت أيضاً أن أعالج مفهوم صدام الحضارات، كباراديغم فرضته التحولات الجديدة لما بعد الحرب الباردة، من دون أن أغفل الأُضلولة المواكبة للحدث نفسه، أي نهاية التّاريخ طبقاًس للموقف الكوجيفي الشارح لجدلية السيد والعبد الهيغلية، أي المخاطرة والاعتراف، في تحيينها الأيديولوجي مع فوكوياما، ومن هنا، كان لا بدّ من التأكيد على صمود الهوية باعتبارها آخر القلاع في مقاومة الهيمنة على المعقول واللاّمعقول، المتجادلين معاً في بنية الهويات القائمة، إنّ الهوية في لحظة ما حرجة تستند إلى أساطير الأوّلين في مقارعة أساطير الآخرين، إنّ الأسطورة تلعب دوراً في حماية المضمون الذي يستبعده المُؤرّخ، كما أنّها تحمي المعقول نفسه حين تتراجع قوته الناعمة ويتفكك نسيجه المعرفي، إنّها عملية تركيبية معقّدة، وجب إسنادها بفكر تركيبي، بعبر- مناهجية ترصد المعنى وتؤمِّن طريقاً للّحظة الأنطولوجيا الدّافقة.
كانت الندوة دسمة، حيث إنها سمحت لي بالتّفكّر المباشر خارج الأحكام المسبقة العارية، التفكير بصوت عالٍ، وقد كان النّقاش المُفيد، حيث تكرمت د. لُبانة وزيرة الثقافة بتعقيب أثارت فيه بعض الملاحظات على مفهوم الهوية وتحدياتها، والسيدة لبانة هي خريجة جامعة باريس الثامنة في اللسانيات، عضو مجمع اللغة العربية «منذ 2008» وعميد المعهد العالي للغات «2011-2012»، ووزيرة الثقافة.
كما كان للصديق الخبير القانوني د. جورج جبور مداخلة قيمة وعميقة ربطت بين فكرة الهوية والوضعية الدستورية، راصداً المعضلة في إطار القانون الدّولي، وهو في الوقت نفسه مناضل وداعية ليوم اللغة العربية، وقد كان كما أخبرني بكل دماثة، في اتصال خاص قبل الندوة، بأنّه معنيّ بالحضور والتفاعل كعادته، جدير بالقول إنّ د. جبور قامة علمية، سبق وحاضر في جامعتي أكسفورد وجامعة كامبريدج في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1964، وأصبح أستاذاً ورئيس قسم السياسة في معهد البحوث والدراسات العربية بين عامي 1977 و 1979.
وكان من بين الحاضرين والمتفاعلين، مثقفون أغنوا الجلسة بآرائهم، حتى أن بعضهم امتعض من إنهاء الندوة، معبراً عن تعطّشهم الفكري وسأمهم من زمن المقاتل والمحارق والإرهاب، بعد ليل الإرهاب الذي شوّش كثيرا على المشهد، وبالفعل نحن أيضاً لم نشبع من المشاركة، حيث مكتبة الأسد الوطنية معلمة شاهدة على ملحمة كبيرة من المطارحات الثقافية والإبداع.
ذهبت ذاكرتي إلى سنوات سابقة، حين جمعتنا ندوة حول الفكر القومي في مواجهة التطرف والإرهاب، حين كان برنار هنري ليفي يتربّص بسورية ويحلم بأن يخطب في دمشق كما فعل في بؤر كثيرة في عشرية خلط الأوراق والمفاهيم وتفكيك الكيانات والفوضى، وحينها ومن مكتبة الأسد الوطنية، راهنته على أنّه ستتلاشى أحلامه على أسوار دمشق، بل لطالما اعتقدت أنّ قبقاب غوّار الطوشة تكفي لـ«الدعس» على ابن عرس في ليل الفوضى الخلاّقة، لقد كانت معركة وعي، وها هي دمشق تستعيد وعيها بنفسها وبالعالم على إيقاع فيفالدي للفصول الأربعة التي كاد الرّبيع الكذّابي أن يختزلها في فصل واحد مزيّف، انهارت معه الهويات وتلاشت فيه فكرة الانتماء…