الكتابة من العدم

التجربة، يمكن أن تكون معاصرة، تجربةُ تلقي كتابٍ مطبوع بكامل شروطه: التنضيد! الغلاف! الإخراج! ترقيم الصفحات! يعني قراءة رواية أو مجموعة قصصية أو ديوان شعري أو عملٍ مترجم، مرّت بمراحل نموّها ككل الكائنات الحية أو الأعمال “الصنعية” وليست مجرّد مخطوط يحتمل التصحيح ببعض الشطب أو التعديل أو الملاحظات!
في الانطباع الأولي، يكون رصدُ الأخطاء اللغوية تلقائياً لأن اللغة، بالبداهة، هي الشكل العام الذي تسقط فيه المواد المكوّنة للعمل الفني، مثلها مثلُ مادة التمثال: مرمر؟ برونز؟ خشب؟ وبعد ذلك يجوس البصر في “التخليق” والتفاصيل والحركة، فإذا كانت اللغة تتقلّى في عشرات الأخطاء، قيل إن الكاتب قد يقع فيها والتدقيق اللغويّ هو عملُ مختص آخر يلجأ إليه حتى “كبار المبدعين”، من دون لحظِ أنّ كثرة الأخطاء تجعل العمل متهافتاً وركيكاً خاصة في بناء التعبير، ووراء هذا البنيان الذي لم يُشيّد كما تقتضي الأصول، صار الانطباع بعد قراءة العمل المطبوع، يتسع، فالمسألة ليست مجرد أخطاء لغوية يقول فيها بعضهم، إن “سيبويه” قد غاب عنها بسبب عدم الاختصاص، بل هي عدم دراية بفن القصة والرواية والشعر، وعدم قراءة ما يكفي منها، لإدراك كثير من أسرارها!
كنت أعبر على معلومةٍ تورد أن الشاعر المُجيد حفظ من الشعر التراثي عشرات القصائد وآلاف الأبيات قبل أن يُقارفَ الشعر ويضع نفسه بين الشعراء، من دون أن أفكر بخلفية هذه المعلومة التي تقود إلى مكانٍ مهم في تقييم الشعر والشاعر، فهذه القراءات الغزيرة، تشبه ما يسميه علماء النفس باللاشعور، واللاشعور الذي اكتشفه علماء النفس، هو نفسه مخزون الفنان والأديب، الثرّ، الذي يكون مدداً لكثير من التجليات البديعة في الفن!
بعض كتاب العصر لم يقرؤوا شيئاً من الأدب الغنيّ بالمدارس والأساليب والألوان المتنوعة، ولمّ يمروا على الرومانسية والواقعية و”السحرية” والتاريخية والذاتية والخيالية والسريالية، ولم يدخلوا الممرات الدقيقة بينها، حين أنتجت كلُّ واحدة شكلها وأسلوبها لتتخطى سواها! بعض هؤلاء يكتبون من “عدم” ويتوهمون أن الكتابة لا تحتاج إلا لكلمات مرصوفة وسرد متراكم مما تتيسر من حدثٍ يعتبرونه مهماً جداً في سياق الزمن العظيم الذي لم يلتفت إليهم هم العابرون بمشاعر قوية، وبأدوات باهتة وغير فاعلة!
تتكدس “المؤلفات المطبوعة” في مداخل أو زوايا بيوت أصحابها وكلهم من دون استثناء يتفجعون عليها، ومن قراء تقييمها، من دون أن يتبصروا أنهم لم يضيفوا شيئاً إلى الإبداع، وإضافتهم الوحيدة كانت تلالاً من ورق سيأكله الغبار!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار