لجينة الأصيل أستاذة الأجيال التي لم تكب تحت إرث الرواد العظيم
تشرين- سامر الشغري:
الفنانة التشكيلية الراحلة لجينة الأصيل لم تكن سليلة ثلة من التشكيليين السوريين الرواد فحسب، فهي لم تكب تحت إرثهم العظيم، بل انطلقت منه لتصنع لنفسها مدرسة خاصة جذبت إليها الكثير من المريدبن والمتأثرين.
وفي سيرة حياة الراحلة لجينة واتجاهها للفن ما يؤكد لنا مجدداً دور الفنون الموجهة للأطفال في جذب هؤلاء إلى عالم الريشة والورق الأبيض، فهي كانت في سني عمرها الأولى عندما أغرمت بمجلة الأطفال المصرية “سندباد”، والتي كانت الأولى من نوعها عربياً، ولفتها بشدة رسومات مبدعها الراحل حسين بيكار، حيث سيظهر لاحقاً تأثرها به ولاسيما في مجال التبسيط اللوني.
غرام لجينة الأصيل بالرسم وفنونه جعلها تتلمذ على يدي مبدع راحل اسمه ناظم الجعفري، ثم درست في مركز الفنون التشكيلية والذي عرف لاحقاً بمعهد أدهم إسماعيل، قبل أن تنضوي ضمن قسم العمارة الداخلية بكلية الفنون الجميلة، بجامعة دمشق، وبذلك أتقنت الرسم الأكاديمي من جميع ضروبه، فالعارفون بالفن يعلمون أن التدريس بالمعهد أكثر كلاسيكية فيما الكلية تنحو إلى حداثة أوسع.
ولدى تخرج لجينة من كلية الفنون سنة 1969، عملت في مجلة “أسامة”، والتي كانت تستقطب الثلاثي المبدع “ممتاز البحرة ونذير نبعة وغسان السباعي”، ولكنها مع ذلك نحت لنفسها خطاً مستقلاً يختلف عن أساليب هذا الثلاثي الأكثر تقيداً بكلاسيكية واقعية.
في مجلة أسامة صنعت أولى شخوصها التي أحبها الأطفال وعاشت في ذاكرتهم وهما عفيف وظريف، ولكنها مع ذلك لم تجعل تجربتها تتوقف على مجال الرسم للصغار، فنوعت فيها أكثر ورسمت لوحات عديدة مختلفة المضامين، وكانت تلجأ للراحلين نذير نبعة وإلياس زيات اللذين كانا يزودانها بالنصيحة والرأي.
لدى دراسة فن لجينة نلاحظ ميل رسوم الأطفال عندها نحو انطباعية تعبيرية تحمل بصمة فريدة يستطيع الناظر تمييزها بسهولة، طوّعت فيها أساليب الرسم للكبار، فهي آمنت بدور هذا الفن في العملية التعليمية والتربوية للصغار، وبأن طفل اليوم أوسع خيالاً وأذكى مما نتوقع، لذلك يجب مخاطبته بطريقة مختلفة عما كانت في الماضي.
وحول هذه النقطة وحول تجربتها في عالم التشكيل يجد الناقد التشكيلي أديب مخزوم أن فيه مناخية أسلوبية مميزة وخاصة، حيث طرحت برسوماتها الطفولية رؤى حديثة تمنح الأشكال والألوان تداخلات بصرية، معبّرة عن روح الفنون المعاصرة، وهنا تبرز العلاقة المتبادلة والمتداخلة بين رسوماتها الخاصة بعالم الصغار ولوحاتها الفنية التشكيلية.
ويرى مخزوم الذي جمعته بالراحلة صداقة طويلة بأن رسومات لجينة للأطفال تظهر مقدرة عالية في التحكم في حركة الخط وإبراز ليونته وانسيابيته، وهذا يظهر بشكل واضح في رسوماتها القصصية الإيضاحية التي نشرتها أيضاً في أبرز مجلات الأطفال العربية، والتي تثير دهشة وإعجاب الصغار والكبار معاً.
وحتى في لوحاتها التعبيرية التي قدمتها في معارضها الفنية، بجميع مراحلها وتجاربها وتحولاتها يلاحظ مخزوم ذلك الخط أو المناخ الخاص الذي ربط أعمالها، والذي له علاقة في نهاية المطاف بهاجسها الطفولي.
لقد استشف مخزوم في لوحات لجينة توازنات مدهشة لجهة القدرة على التحكم بليونة الخط وسحر اللمسة اللونية، فهي كانت تريد الوصول إلى حالة توفيقية بين الرسم العقلاني والانفلات العاطفي، لأننا إذا تأملنا رسوماتها التي يغلب عليها الطابع الانفعالي، نجدها كانت تركز باستمرار على الابتعاد عن المظاهر التشكيلية العبثية الأوروبية في القرن الماضي.
ولعل أهم ما ميّز تجربة لجينة إضافة إلى ما قاله الناقد مخزوم، تخصيص جزء كبير من وقتها لنشر تجربتها بين صفوف الأجيال التي أتت بعدها، حيث ظهرت ريشات كثيرة تأثرت بها، ولعل من أهمها الفنانة التشكيلية سناء قولي والتي نحت مثلها نحو تعبيرية لونية بأسلوب تبسيطي يداعب خيال الطفل ويطرح عنده الأسئلة، وتعزز هذا التاثر في الأجيال اللاحقة ولاسيما أن لجينة أشرفت على العديد من ورشات العمل التخصصية لرسوم الأطفال والتي دأبت وزارة الثقافة على إقامتها دورياً، فتتلمذ على يديها الكثيرات اللواتي حملن أسلوبها من ضحى الخطيب وناديا داود وغيرهما.
ولكن تجربة الراحلة الفريدة وإصرارها على أن يكون لها خطها المستقل والذي تحاشت فيه أن تكون امتداداً أو ظلاً لعظماء سبقوها، سوف تجعلنا ندعو كل تلامذتها أو تأثر بإرثها العظيم، أن تكون قدوته أيضاً في تقديم المختلف والمميز، فهذا كان إرثها الحقيقي، وبذلك أوجدت لنفسها اسماً بين الكبار والأعلام سوف يشار إليه دائماً بالبنان على مر السنين.