كلُّ الزمن للشعر
الشعر وحده دون غيره من بقية الأنواع الإبداعية؛ هو الإبداع الأسمى، وهو روح الإنسانية وعطرها، وكلُّ ما عدا ذلك لا يزالُ يلهثُ خلف القصيدة ويتمسحُ بالشعر ليُقارب الإبداع.. أو عليه أن يقترض بعضَ الشعر، قليله، أو كثيره لا فرق.. وأي عمل فني ليس فيه بعد شعري، فهو يحتاج تساؤلات عديدة، فلا معنى اليوم للوحة تشكيلية ليس فيها تلك الغنائية والتعبيرية الشعرية العالية، ولا سحر لمشهدٍ سينمائي إن لم يكن مفعماً بصورة شاعرية، فيما تأتي القصة أو الرواية بلغةٍ جافة وخشبية يابسة إن لم تتحدث بلسان الشعر، وزمن الشعر باقٍ، وإن كان ثمة زمن للشعر فهو هذا الزمن زمن الفقر وعدم الحب، وطغيان الكراهية.. كما إنّ الشعر – حسب أدونيس- لا يقاس بعدد القراء والنشر وهو يقاس إلا بشعريته بحضور النص بوصفه مقاربة جديدة للعالم وعلاقة جديدة بين الكلمات والأشياء، وبين الكلمات والكلمات، وبين الأشياء والأشياء..
أقول هذا على الأقل في العالم العربي، لأنّ كل صنوف الإبداع في هذا “العالم” بقيت فنوناً وافدة عليه، فيما الشعر كان أصيلاً وقديماً وربما منذ أن تحدث الناس فيما بينهم، ونطقوا، وعلى ما يبدو أنهم أول ما نطقوا، قالوا شعراً.. مع أنّ الحكمة الصينية تقول: “من دون شعرٍ؛ كيف لقلبٍ أن يركبَ الأمواج للقاء قلب آخر”، بمعنى أن الشعر يكاد يكون هو أولاً في كلِّ أمم هذا العالم..
فهذا أرسطو، وعلى عكس أفلاطون يرى أنّ “الشعر شيءٌ أكثر فلسفياً وأهمية أكبر من التاريخ”، فـ”الشعر ليس مسألة مشاعر، بل مسألة لغة، لغة تخلق المشاعر.” على ما يرى أومبيرتو إيكو على سبيل المثال، اليوم أكاد أشكك بكلِّ تجربة إبداعية إن لم يمتلك صاحبها حالةً شعرية ما، حتى لو اقتصرت على التذوق والقراءة وحسب..
غير أنّ محنة الشعر اليوم، ربما هي في معظمها في الشعراء أنفسهم، في مستويات مختلفة تجعل الشاعر وحيداً، وكذلك تجعل القصيدة في عزلة، ربما أبرزها تظهر في حالة “التعصّب” المقيتة، لاسيما في شعراء “الدبكة” والحداء ورجز النوق والبعير.. هؤلاء الذين ينتشون بالإيقاع الذين يطلقون عليه زوراً “موسيقا” لدرجة أن حصروا الشعرية الحقة بالعروض والوزن والقافية، وهو ما حوّل أكثر من ثمانين في المئة من ذلك الشكل الشعر الذي بلغ ذروته مع المتنبي إلى نظم و”دربكة” وربما “طبل” وحسب.. ذلك إنه إلى اليوم لم يأتِ شاعرٌ كتب الشكل العمودي بوزن وحجم المتنبي الذي جعل من البيت الشعري حكمةً فلسفية، وتجربة حياة حيّة على مدى الزمان..
المحنة المقابلة؛ إنّ شعراء قصيدة النثر، وفي معرض ردّهم على أصدقائهم اللدودين من النظامين، راحوا يفتشون “بالفتيلة” عن إيقاع موازٍ في قصيدة النثر، أطلقوا عليه بدورهم اسم موسيقا داخلية، باعتبار الموسيقا الخارجية من نصيب الشعر العمودي.. ونسوا كل جماليات الشكل الجديد من الشعر ولا يزال الفريقان يقيمان حفلات “التشارع” على شرعية قصيدة النثر بعد ما يُقارب من مرور مئة سنة على وجودها..
أختم مع أدونيس: إذا كان الموت لا يزول والحب لا يزول، والصداقة لا تزول.. الشعر أيضاً لا يزول، والزمن كله للشعر، لأنّ الزمن كله للحب والصداقة والموت.