العفيدلي يطوف في «خيال مشتهى» بين قاسيون الشام وفرات الرقة
تشرين- راوية زاهر:
“تعبتُ من الكتابة ياصديقي
ومن حلمٍ تساقط في الطّريق
فهل من مشترٍ حلمي وشعري
بقطراتٍ تبلّ يباس ريقي
مللتُ من الرّجاء وخاب ظنّي
وصوتي غاب في وادٍ سحيق
حياةٌ ما شعرتُ بها حياةً
أبيتُ العيش فيها بالشهيق
أموت محاولاً فيها وحسبي
بذاك الموت من مجدٍ عريق.”
(شهوة الخيال) هي رابعة شعرية للشاعر السوري عبد الكريم العفيدلي بعد:”مصور العشا، أشرعة الهمس، وأبوهاته بلونها النبطي المحلي”، وشهوة الخيال مجموعة شعرية متنوعة بين الموزون والحرّ والصّادرة عن دار العراب في دمشق، أناخ بحمل كتابه بين أيدينا بمحتوىً شارف على الستة وأربعين نصّاً شعريّاً..
وبعنوان يضعك على حافة رغبات مؤجلة، بطرفين معنويين (شهوة وخيال).. فشهوة العنوان تأخذنا إلى رغبة عند الشاعر ستقوده إلى ما يحبّ ويريد، كقوة نفسية تؤدي إلى رغبة شديدة لشيءٍ يرضي الشعور وهي اشتياق هذه النفس وتوقها لشيء حسّي.. أما الخيال فهو هاجس ينمو في مخيلة الإنسان ويتمنى تحققه.. فأي خيال مشتهى للشاعر يرغب في تحققه؟ هل هو عودة الراحلين من رحلات الشتات عن الرقة؟ هل هو عودة شباب الفرات بعد أن شاخ؟ هل هو عودة كرامة أمةٍ هُدرت على مذابح غزة ومشاهد قتل الطفل والبشر والحجر فيها على مرأى ومسمع أبناء الجلدة والإنسانية جمعاء؟
احتمالات مفتوحة يشي بها عنوان باذخ فتح باب التكهن على مصراعيه.. أقف على شعر العفيدلي وكأن حال يدي مملوءة بالغياب.. تحدّث بغزارة عن الراحلين وآلام الرحيل والفقد، وخصّ الشعراء برحيل ليس كرحيل الناس، نجماتهم تدفن وتصير مع الزمن حقولاً وأثماراً، نجوماً وشموساً وقناديل، فقال:
“تبقى القصائد بالضمائر زهرةً
تأبى على مرّ الزّمان ذبولا”
ورأى وجود رابط يربط الشعراء بالحزن، فالحزن، هو كُنه وجودهم وجوهر ذواتهم، صديق عزوتهم ورفيق وحدتهم.
“الحزن للشعراء سرُّ وجودهم
لولاه ما نظموا النجوم عقودا
الحزن يوقظ قامة بشعورهم
فتسيل أودية الشّعور قصيدا ”
نوّع الشاعر في أغراضه الشعرية فوجدنا الغزل والحكمة والافتخار والرّثاء، وقضايا المجتمع التي تجسدت في شعره كقطعة من روح، لتجعلة يعبّر عن ذاته بإحساسٍ عالٍ بالمسؤولية والانخراط في قضايا المجتمع والبيئة الحياتية، فكان لشعره الاجتماعي المنتمي إلى الواقعية الجديدة حضورٌ مميز، وجدناه في رسالة صريحة إلى فنانة وقد حملت هذه الرسالة بعداً أخلاقياً ونزعةً استنكارية لواقع تحوّل فيه الأدب إلى سلعةٍ رخيصةٍ والفن إلى ابتذال يُختصر بجسدٍ وقدّ عارٍ.. ومن القضايا الاجتماعية حديثه عن “كوفيد ١٩” بأسلوب أدبي علمي إلى حدٍّ كبير:
“جنّ البلاء وهزّنا التهديد
شبحٌ أطلّ واسمه الكوفيد
قد قطّع الأرحام فيما بيننا
فالحزن غيّب طقسه والعيد”
الوطن حضر بقوة في شعر العفيدلي ليعبّر فيه عن خلجات نفسه تجاه وطن ذبح من الوريد إلى الوريد، عبّر عن اعتزازه به وعشقه لهذه الأرض وافتخاره بأجداده رغم كلّ أوجاعه وخيباته متأسفاً لطمع الغزاة بها مذكراً إياهم أن أهل البلاد هم أسود في وجه الأعادي فقال:
“بلادي رغم خذلاني وجرحي
أحبّك والهوى أضنى فؤادي
دهاك الطامعون بكلّ وزر
ينوء بحمله طور البلاد
تناسوا أنّ فيك أسود غابٍ
وعقباناً على عوج الجياد.”
وما بين البلاد والهوية يتشعب وجع القضية.. فالرّقة تلك الشامة العربية على خدّ البلاد أصابها من الأرزاء ما يعجز عن قوله اللسان، فضاعت بضياعها مرابع طفولة الشاعر، وتكدّر نهرها الخالد وعصفت ببواديها المراسي وتطاول على فلواتها الأغراب، فتشتت في هدأة كراها الهوية وبدّد الشراذم نومها الهادئ.. فكان لقصيدة “أضعت هويتي” صداها الآسر لما حملته واعتلج في نفس الشاعر من مشاعر الخيبة والألم وشتات القوم والحنين لماضٍ كان قبل حينٍ ينعم بسكينة الدار وحميمية المرابع فقال:
“لا الأهلُ أهلي ولا الفرات فراتي
قد غيّر ( الدخلاء) نبل صفاتي
عبث الزمان بكلّ شيء وانطفى
وهج الحياة، وأجهضت ضحكاتي
والأهل غابوا بالمتاهة كلّهم
بالبحر.. بالأجواء.. بالفلوات ”
كما حضرت غزّة المقتولة في شعر العفيدلي، مرجومة، محروقة، يعاب لسان من يقول فيها كلمة حق، كانت مسافة صفر الكرامة العربية، وطوفان يحمل كرامة شعب مظلوم، وطائر فينيق سينهض من تحت رماد القهر والموت وحرائق الصمت برصاص أحمر يؤخذ فيه الحقّ ويُجعل للموت الزؤام طعمٌ ولون رافضاً فكرة التفاوض مع العدو:
“درب التفاوض لا يعيد حقوقنا
فالحقّ يؤخذ بالرّصاص الأحمر.”
والعفيدلي شاعر يلعبُ الطميمة مع اللغة فيشاغلها ويشاكسها، وهو من خاض في فصيحها فكتب الموزون، ولعب على وتر القصيدة فكتب في حرّها ونثرها. وركب جواد محليتها فكتب النبطي.
فاللغة عنده كانت المعادل الموضوعي للحب والغزل ولوجع الفقد والألم والصمت، وغياب هوية الأمكنة وحزن المرابع، فالفرات شاخ وبردى غاض وقاسيون يراقب غلط الإملاء بين آمال وآلام البشر، وطوفان غزة، طاف غدراً واستكانة وعذراً، طاف حزناً لقوم صنعوا للإبادة مجداً بمخالب من مسافة الصفر.
(شهوة الخيال) ابتداءً من العنوان وانتهاء بآخر نصوص الكتاب تعجّ بالصور والاستعارات وكنايات اللغة، والمجازات الراقصة على وتر العبارة والفكرة.. (شاخ الفرات، أعين الوقت، يشكو النخيل وسعفه متضرّع، فكرةٌ تمشي..) استعارات مكنية أنسن الشاعر أشياءها، وأبحر في عمق أفكارها.. وكذلك التصريحية:”عقبانا؛ تشبيه أهل البلاد بالعقبان، والأسود..” وكذلك نوّع في استخدام صور التشبيه وجعل منه ترفاً تصويرياً لتحريك المشاعر والأحاسيس من قبيل: أنت الأم، أنت السراب، الحياة بوتقة نوعه :بليغ.. أما البليغ الإضافي فحضر لغاية استعراض جمالية اللغة: خزانة التاريخ، مراكب الحلم، جنة الفقد..
أما عن الأساليب اللغوية الأخرى فحضورها الكثيف يدلّ على تمكّن الكاتب من اللغة باشتقاقاتها ونفيها وخبرها وإنشائها.. فالإنشاء، حضر بكل أنواعه ليعبّر بصدقٍ عن الحالة الانفعالية للشاعر ومن أمثلته: ياطفلة الأحلام، إنشاء نوعه نداء، اخفض جناحك، ازرع جميلاً: إنشاء نوعه أمر.. وكذلك استخدم أسلوب القصر: ما جئتُ إلاّ ذاكراً ومذكراً.. ما أنت إلا قامة في موطني.
قصرٌ باستخدام (النفي وإلا) في تعبير انفعالي واضح عن خلجات الروح.. ومن الأساليب الأكثر شيوعاً بين سطور الديوان كان أسلوب التناص، الذي يحيلنا إلى أحداث وقصص تاريخية لها وزن وعبرة، ومن أمثلتها:
“هل جاءني ذاك القميص أشمّه
ليعود لي بصري بمحو ظلالي.”
تناص رفيع أعادنا إلى قصة سيدنا يوسف ووالده يعقوب النبي
واستخدم الشاعر أيضاً محسنات بديعية، لفظية ومعنوية في محاولة لإغناء النص بالموسيقا الداخلية..(ظالماً عادلاً)، وهنا سينتهي الحديث عن شهوة خيال محلّق في بلاد حزينة:
في دمشق
قاسيون الجبل
حاكماً حارساً
كان يراقب بصمتٍ
غلط الإملاء
بين آمال وآلام البشر.