طوفان الأقصى.. بين طوفان نوح وطوفان الشعوب الأبية
دمشق- د. محمد رقيه:
لقد حصل طوفان نوح الرباني الأوحد بعد أن عجز نبي الله نوح في دعوته البشر لعبادة الله والبعد عن المعاصي والكفر.
فقد كذبوه، بأنه رسول الله، وبما أنبأهم به عن ربه.
وأجمل النصُّ القرآني في سورة القمر الأعمال التي قام بها قومه لمقاومة دعوته بعبارة “وازدجر” أي: منعه كبراء قومه، ونهوه بغلظة وعنف وشدّة عن أن يدعو عامتهم إلى الدين الذي جاء به، وطالبوه بأن يكفّ عنهم، ونهروه بعنف شديد .
عندئذ سكن نوح إلى ربه الذي أرسله وكلفه مهمة التبليغ، وأخبره ما انتهى إليه أمره مع قومه، وما انتهى إليه جهده وعمله، وما انتهت إليه طاقته ، ويدع له الأمر بعد أن لم تعد لديه طاقة لم يبذلها، وبعد أن لم تبق له حيلة ولا حول (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ).
فاستجاب له ربه وأمره بصنع الفلك المشحون وحدث الطوفان العظيم ، الذي لم ينجو منه سوى المؤمنين الذين اتبعوا نوح وركبوا سفينته .
هكذا كان طوفان نوح الرباني، أما طوفان الطبيعة فيحصل عندما تصل الأوضاع الى نقطة حدية لا يجوز تجاوزها .
فمثلا” يطوف النهر عندما لا يستوعب مجراه كميات المياه الواردة اليه عند نقطة محددة ويجرف معه كل شيء يصل اليه.
وتطوف السهول والأراضي المنخفضة عندما لا تجد المياه الزائدة تصريفا” لها.
وتطوف البحار ضمن ما يعرف بالتسونامي عندما يحصل زلزال بحري شديد أو انفجار بركاني عظيم، أو انفجار صنعي ضخم ، فتطوف المياه على اليابسة ويحصل المحظور
أما طوفان البشر فيحصل عندما يصل الظلم والقهر والإذلال والعبودية والعدوانية والقتل والاجرام الى حدود لا يمكن تحملها والسكوت عليها ، ويصبح عندها الدفاع والموت في سبيل الحرية والعيش الكريم أهون بكثير من العيش بهكذا أوضاع.
وهكذا فإن عملية طوفان الأقصى الاعجازية قد حصلت ضمن هذه المعادلة، بعد أن وصلت الأوضاع الفلسطينية الى أسوأ مراحلها من التنكيل بالشعب الفلسطيني وتدمير حياته وأسس معيشته والاعتداء المتكرر على الأقصى الشريف والمدينة المقدسة التي جرى تهويدها بسرعة قياسية، وأصبح الوضع لا يطاق في السنوات الأخيرة سواء في غزة أو الضفة الغربية أو القدس الشريف في ظل حكومة يمينية متطرفة همُّها الأول قتل وتهجير الفلسطينيين.
وبدا ذلك جلياً في عدد من القضايا التي أشار إلى بعضها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في أحد خطاباته وأهمها:
١- قضية القدس والمسجد الأقصى الذي يعتدي عليه الصهاينة يومياً.
٢- قضية آلاف الأسرى، الذين يعانون أشد أنواع العذاب والتنكيل في سجون الاحتلال ويعيشون في ظروف مأساوية.
٣- الحصار الدائم على قطاع غزة الأكثر كثافة سكانية في العالم منذ عام 2007 براً وبحراً وجواً وتنفيذ الكيان عمليات عسكرية في القطاع كلما رأى ذلك ضرورياً، بعضها تحول إلى حروب استمرت أسابيع وخلّفت آلاف الشهداء الفلسطينيين، واغتيال قادة حركة المقاومة فيه كلما سنحت الفرصة لهذا العدو المجرم وأهمها:
▪️عدوان 2008 – 2009 المسمى عملية الرصاص المصبوب/معركة الفرقان، الذي بدأ في 27 كانون الأول 2008
واستمر العدوان 23 يوماً، حيث توقف في 18 كانون الثاني 2009، واستخدم فيه الاحتلال أسلحة محرّمة دولياً مثل الفوسفور الأبيض واليورانيوم المنضب، وأطلق أكثر من ألف طن من المتفجرات، وسقط أكثر من1430 شهيداً فلسطينياً وآلاف الجرحى.
▪️عدوان 14 تشرين الثاني 2012، الذي استمر 8 أيام، وسماه الكيان عامود السحاب، وسمته المقاومة حجارة السجيل.
▪️عدوان السابع من تموز 2014، الذي سماه الكيان «الجرف الصامد»، وسمته المقاومة بمعركة «العصف المأكول»، واستمرت المواجهة 51 يوماً، شن خلالها جيش الاحتلال أكثر من 60 ألف غارة على القطاع.
أسفر هذا العدوان عن 2322 شهيداً و11 ألف جريح، وارتكب الاحتلال مجازر بحق 144 عائلة فلسطينية
▪️ عدوان 12 تشرين الثاني عام 2019، الذي بدأ باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس واستمر العدوان عدة أيام استشهد خلاله 34 فلسطينياً، وجرح أكثر من 100 آخرين.
▪️ عدوان حارس الأسوار/ سيف القدس عام 2021.
بدأ العدوان بعد استيلاء مستوطنين على بيوت مقدسيين في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الصهيونية للمسجد الأقصى.
أسفر العدوان عن نحو 250 شهيداً فلسطينياً وأكثر من 5 آلاف جريح، كما قصف الكيان عدة أبراج سكنية في غزة .
▪️ عدوان الفجر الصادق يوم الجمعة في الخامس من آب 2022 الذي بدأ باغتيال الكيان لقائد المنطقة الشمالية لسرايا القدس «الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي» في غزة، بطائرة مسيّرة داخل شقتة السكنية في «برج فلسطين» بحي الرمال.
بلغ عدد الشهداء 24 شهيداً وأصيب 203 بجروح مختلفة.
٤- المخاطر الكبيرة التي يتعرض لها سكان الضفة الغربية من قتل يومي مستفحل ونهب وسرقة الأراضي واستيطان دائم في مختلف مناطق الضفة حتى أصبحت قراها ومدنها كنتونات معزولة عن بعضها البعض.
ضمن هذا الواقع المؤلم والعصي على الحل والعنهجية الصهيونية بمسؤوليها المتطرفين التي تعامل الفلسطينيين كفئران تجارب وحيوانات بشرية جاء طوفان الأقصى الأسطوري الذي فاق كلَّ التوقعات «ضمن مبدأ من أجبرك على الموت، قال الأمرّ منه».
لقد ارتكب الصهاينة بعد طوفان الأقصى أبشع جرائم حرب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني على مدى أكثر من 144 يوماً وضرب كل سبل العيش والحياة في القطاع لم يحصل مثلها منذ هيروشيما وناغازاكي في اليابان.
فحتى 4 كانون الثاني 2023 ألقى الكيان في عدوانه على القطاع أكثر من 65 ألف طن من المتفجرات بأحدث أنواع القنابل والصواريخ المحرم بعضها دولياً وذلك يعادل أكثر من أربع قنابل نووية من النوع الذي ألقي على هيروشيما وفق ما أشار إليه خبراء المتفجرات، وهذا يعادل أيضاً أكثر من ألف طن من المتفجرات يومياً مستمرة حتى الآن.
في ضوء هذا التدمير والقتل الهمجي لكل ساكن ومتحرك في القطاع ثارت خلال الأشهر الماضية في مئات المدن بمختلف دول العالم عشرات الملايين من الشعوب الأبية في طوفان من المظاهرات قلما حصل مثلها سابقاً لوقف العدوان الصهيوني الهمجي والإبادة الجماعية للسكان وانسحاب قواته من القطاع.
فمن أمريكا بمختلف ولاياتها ومدنها والعاصمة واشنطن إلى بريطانيا حصلت أكبر المظاهرات بالرغم من أن حكام البلدين من أكبر الداعمين للكيان الصهيوني.
ووصفت المظاهرة الحاشدة في شوارع لندن باتجاه السفارة الأمريكية بأنها واحدة من أكبر الفعاليات في تاريخ لندن، حيث قدر المنظمون أنّ عدد المشاركين وصل إلى مليون متظاهر امتدوا على مسافة تزيد على 5 كم.
وعمت المظاهرات فرنسا وبلجيكا وألمانيا وأستراليا، وإندونيسيا وعاصمتها جاكرتا التي شهدت تظاهرة مليونية زاد عدد المشاركين فيها مليوناً ونصف المليون، بينهم وزراء وبرلمانيون وقادة أحزاب، وفي المغرب طالب المتظاهرون في أكثر من مدينة مغربية بوقف التطبيع بين المملكة والكيان المحتل، وانتقلت المظاهرات إلى كندا وإيطاليا والدنمارك واليونان والنمسا والسويد وماليزيا واليابان وإيرلندا وغانا وجنوب إفريقيا وإيران وتركيا واليمن بمسيراته المليونية العديدة والعراق وسلطنة عمان وتونس ولبنان والأردن ولكسمبورغ وكوريا الجنوبية والمكسيك وباكستان وبانغلادش ودول أمريكا اللاتينية والاتحاد الإفريقي وغيرها من الدول الأخرى.
وتتواصل هذه المظاهرات والمسيرات الداعمة للشعب الفلسطيني والمطالبة بوقف الإبادة الجماعية لهذا الشعب الأعزل بأطفاله ونسائه وشيوخه وتتكرر يومياً وتزداد كثافتها وحدتها.
ففي يوم الجمعة الماضي مثلاً في 23 شباط 2024 اندلعت المظاهرات في أكثر من مئة مدينة في إسبانيا وحدها، تطالب بوقف المذابح والإبادة الجماعية والتهجير القسري للسكان.
تخلل هذه المظاهرات إضراب عالمي بتاريخ 11 كانون الأول 2023، وقد شكل ذلك ضغطاً كبيراً على الكيان المحتل وداعميه لوقف العدوان والإبادة والتهجير القسري للشعب الفلسطيني.
إنّ عملية طوفان الأقصى الإعجازية أحدثت زلزالاً كبيراً لدى الكيان الصهيوني، أمنياً وعسكرياً وسياسياً ونفسياً ومعنوياً وستعجل في زوال هذا الكيان مهما طغى وتجبر وعصى ودمر.