عودة الاعتبار للذائقة.. محنة شارع الثقافة مع النقد.. هوّة سحيقة مع «برجي أكاديمي» و«أخواني عشوائيات»..
تحقيق: علي الرّاعي:
كثيراً ما تمّ تناقل هذه الحكاية النقدية، حيث تروي أنه في عام 1964 تمّ عرض لوحات تشكيلية في معرضٍ فني في السويد لفنان يُدعى”بيير براسو”.. وقد حصلت اللوحات – حسبما تروي الحكاية – على تقدير العديد من النقاد، بل إنّ بعضهم أثنى على لمسات الفنان لدرجة أن أحد النقاد يدعى “رولف آديربيرغ” وصف الرسّام بقوله: “رسومات براسو تعكس ضربات فرشاة قوية ذات عزيمة وإصرار، وتعكس غضباً عميقاً وحساسية.. ويزيد أيضاً: “براسو رسّام يرسم برقة راقص باليه”..
غير أنّ ما لم يكن يعرفه النقاد حينها؛ أن”بيير براسو”، هو (شمبانزي) وهو عنوان لخدعة قام بها الصحفي في صحفية التابلويد السويدية “أوكه أكسلسون” ليكشف حقيقة نُقّاد الفن.. حيث كان قد اتفق مع حارس الشمبانزي وأعطاه فرشاة ولوحات وقام الشمبانزي بالرسم عليها.. وقد اختار أكسلسون أفضل أربع لوحات منها، وعرضها في معرض كريستينا في غوتبورغ في السويد.. ويذكر أن أحد جامعي اللوحات حينها اشترى واحدة من رسومات بيير بسعر تسعين دولاراً في ذلك الوقت!!
وفي كتابه ذي الصيت الذائع “الشعر والتجربة”؛ يذكر الشاعر الأمريكي أرشبالد ماكليش: والمرء في ميدان الشعر بحاجة إلى رائد ثقة، رجل رأى واستبان ثمّ عاد، ولن يكون هذا الرائد إلّا شاعراً.. ومن ثُمّ فهو يرى النقاد كمن يضع خرائط لجبال العالم الذي يريدونه، غير أنهم هم أنفسهم لم يتسلقوا تلك الجبال قط.
نقد افتراضي
بهذا الرأي لماكليش؛ فهو ينسف النقد الذي نصفه اليوم بالأكاديمي، ذلك النقد رغم كلّ الأكاديميات والجامعات التي تُخرّج عشرات النُقاد سنوياً محملين بأطروحاتهم الضخمة، لكنهم بتلك الحمولات كمن اكتشف أحفورات وهياكل عظمية لديناصورات كانت لها حياةً ما ذات ملايين من السنين خلت.. وهو لأمر لافت شغل النقاد الأكاديميين الذين يتجهون صوب النتاج الإبداعي القديم، والذي غالباً ما يكون قد أشبع شغلاً نقدياً، وليس بوسعهم سوى إعادة وتكرار ما كان قد قُيل سابقاً، وإن بصياغات جديدة، أو الاتجاه صوب المُكرّس من التجارب الإبداعية، حيث يدور النقد ضمن الدوائر ذاتها التي كانت قد تشكلت حول التجربة الإبداعية خلال فترة شباب المُبدع، لدرجة ثمة غربة لهذا النقد اليوم عن المشهد الثقافي والإبداعي الحاضر، وقد صنع هوة سحيقة بين الجامعة والشارع الثقافي، وكأن التجارب الجديدة لا تعنيه بشيءٍ، أو كأنها نتاجات مُترجمة عن لغات أجنبية!!
حتى في الغرب، لم يكن النقاد الأكاديميون، هم من أسس النظريات النقدية والمذاهب الفنية، وكذلك التيارات الإبداعية والمدارس النقدية، بل كان المبدعون أنفسهم، هم من أوجد تلك المدارس والمذاهب الإبداعية ومختلف التيارات في مجالات الإبداع الكثيرة.
الإحساس بالجمال
هل لأجل ذلك؛ ما دفع بمُبدع من حجم خورخي بورخيس مثلاً لأن يُصرّح ذات مرة: بالنسبة لي الجمال إحساس فيزيائي، شيء نشعره بكامل جسدنا. إنه ليس نتاج حكم. لا نصل إليه عن طريق الأحكام. إما أن نشعر بالجمال وإما لا نشعر به.
وهو تأكيد لمقولة الشاعر الأمريكي أرشبالد ماكليش في تأكيده على مسألة التذوق والنقد الانطباعي الذي هو أشبه بكمياء من نوعٍ خاص تختبر تلك المفردات ومكونات النص، أي نص لتُحيل العادي لجماليات سحرية. النقد التذوقي الذي دفع بالباحث السوري عطيّة مسوّح لأن يُصدر كتاباً كاملاً، يُعيد من خلاله الاعتبار إلى التذوق في مُقاربة النصوص الشعرية في كتابه اللافت “منارات شعرية- مقاربات نقدية تذوقية” الصادر عن دار الينابيع بدمشق.
عطية مسوح الذي يرى الأدب عامة، والشعر خاصة؛ عملاً إبداعيا. والعمل الإبداعي؛ لا يسيرُ أو يُقوّم وفق قوانين صارمة، ولا تُحدده النظريات، بل إنّ معظم الأعمال الأدبية؛ هي تلك التي تجاوزت حدود الإنجازات النقدية السابقة ودفعت النقاد إلى السعي لاستنباط أفكار نقدية جديدة، لا يلبث الإبداع أن تجاوزها، أي أنّ الإبداع الأدبي لا يأتي وفق مقتضيات النقد، بل إن النقد يسيرُ وفق مقتضيات الإبداع الأدبي وطبيعته.. وهو ما دفع الناقد التشكيلي أديب مخزوم كي يصف النقد الأكاديمي إنه في مأزق، إذ يقول: وهو يقصد بذلك الذين درسوا النقد حصراً ولم ينجحوا في الكتابة النقدية.. وبرأيه قد يكون النقد الأكاديمي موجوداً، ولكنه غير فاعل وغير مؤثر، وسيبقى أسير الأطروحات الجامعية، وفي برجه العاجي، ومن ثمّ لا قيمة لنقد لا يصل إلى الفنانين والجمهور… ذلك لأن النقد الأكاديمي، وخاصة في الفن التشكيلي غير موجود بأي مكان من العالم، حتى في باريس لم ينجح النقد الأكاديمي في الوصول إلى الجمهور – يُضيف مخزوم- لأن أصحاب هذا النقد لا يقرؤون ما يكتب في الصحف والمجلات، وبالتالي يفتقرون إلى المهنية والخبرة في صياغة الجملة الساحرة والمبتكرة، والنقد الأكاديمي، على هذا، يفتقر للشروط التي يتطلبها المقال أو التحقيق الصحفي.. حتى إن كبار النقاد في شتى المجالات لم يدرسوا النقد، ولدينا اليوم أشخاص حازوا على شهادات عليا في النقد وتاريخ الفن، ولا يستطيعون كتابة مقالة واحدة، من دون أن يقعوا في أخطاء ومغالطات، وأبرز النقاد في سورية وخارجها، لم يدرسوا الفن والنقد، من أمثال المؤسسين صلاح الدين محمد، وطارق الشريف، حتى إن أندريه مالرو أبرز نقاد الفن التشكيلي في هذا العصر، توقف عن الدراسة بعد حصوله على الثانوية.
مستويات ثلاثة
لكن من وجهة نظر أخرى، فإن كان ثمة من يعتب على النقد؛ ألا يحقُّ لنا أن نتساءل: هل النقد البائس، هو انعكاس لإبداعٍ بائس، بمعنى آخر؛ لو كان لدينا إبداعاً جيّداً، هل يُفترض أن يواكبه نقدٌ جيّد؟ أم إنّ في الأمر خطأ ما؟! ثمة من يقول: إنه يوجد بعض الإبداع المُزدهر في الساحة الثقافية، لكن النقد متخلف عنه لأسبابٍ كثيرة، وفي كلِّ مرة وعند سؤالنا لأي مُبدع حول النقد المواكب للحركة الإبداعية، فإنه يُجيب على الفور: “لا يوجد نقد”!!
القول إنه لا يوجد نقد، فيه الكثير من الإجحاف، وهنا يُمكن أن نُميّز بين ثلاثة أنواعٍ من النقد، نقد يُمكن تصنيفه بنقد “الأخوانيات” وهذا غالباً ما يُمارسه “المبدعون النقاد” وأمثلته كثيرة، كأن يكتب روائي – وغالباً ما يفعلها الروائي أكثر من غيره- عن مجموعة لصديقته الشاعرة الصاعدة التي صدرت مجموعتها الشعرية حديثاً، فتقوم هي برد “الجميل” بتقريظٍ عن روايته “الفلتة” في أحد المواقع الإلكترونية.. ومثل هذه “الأخوانيات” ليست في الأدب وحسب، بل في مختلف صنوف الإبداع. وأما النوع، أو المستوى الثاني من النقد، والذي يُمكن أن نطلق عليه “نقد الأستذة” الذي يقوم على “تتفيه” أي إبداع حتى لو كان لأدونيس، حيث تكون “الأنا” هنا قد تورمت إلى أقصى مداها، يُدخن صاحبنا “البايّب” ولا يرى وليد إخلاصي أقلّ شأناً منه، وغالباً هو صحفي يُمارس نوعاً من الهيمنة، على المُبدع حتى يحسب له الأخير حساباً، وهو أقرب إلى “الناقد الأمني” الذي يُمارس نوعاً من التخويف بممارسته التصيّد والتهكم والسخرية القائمة على ما في داخله من فجور مع إن معظم هؤلاء الذين يُمارسون مثل هذا النقد؛ من مستنفدي سنوات الرسوب في الجامعة، وهنا المستوى الثالث، وأقصد الأكاديمي الذي بقي يُفصّل النصوص على مقاسات نظريات ودراسات محفوظة عن ظهر قلب.
رأي أكاديمي
وعن هذه المحنة كنت سألت مرةً الدكتور عبده عبود، وحكاية عدم رضا المُبدع عن النقد، حيث أجاب: ذلك لأنّ الأدباء لن يرضوا عن النقد مهما اجتهد، لسببٍ بسيط هو أنّ الأدباء يتوقعون من “النقد” ما لا يستطيع النقد أن يُلبيه. هم يتوقعون من النقاد أن يكتبوا دراسة عن كلِّ مجموعةٍ شعرية أو قصصية، وكلِّ روايةٍ جديدة بمجرد صدورها، إنهم في عجلةٍ من أمرهم يريدون من النقد أن يكون صدى سريعاً وفورياً للأدب، وهذا ما لم يكن ولن يكون إلّا على مستوى واحد من النقد، ألا وهو النقد الصحفي أو الإعلامي، فالمواكبة النقدية السريعة من مهماته، ولا أعتقد أن النقد الإعلامي مُقصر في أداء هذه المهمة، ومن البدهي ألا يتوقع المرء من هذا النقد كثيراً من العمق، فهو لا يطمح إلى أكثر من أن يُعرّف المتلقين بعملٍ أدبي جديد. إنه جسر أو واسطة بين الأديب والمتلقي، طبعاً من الممكن تحسين أداء النقد الإعلامي، وذلك بتدريب النقاد والصحفيين، ومدّهم بالأعمال الأدبية الجديدة، وهذا ممكن وضروري ولكنه لن يُرضي الأدباء وسيواصلون ترديد النغمة القديمة الجديدة: غياب النقد، تقصير النقد، وموت النقد..
وهذا برأيه أمر طبيعي، فللأديب دور، وللناقد دور، والدوران مُتناقضان لن يلتقيا، وهذا أمر لا يجوز أن يقض مضاجعنا أو يُحزننا كثيراً يردف عبّود- فرضا الأدباء كغيرهم من الناس- غاية لا تُدرك. وهو كما يراه؛ “رضا مُنتج”، إذ يقول ساخراً إنه حفّز كثيراً من الأدباء إلى أخذ دور النقد بأدبهم، فراحوا يُمارسون النقد، ومُباركٌ عليهم هذا الدور، دور الخصم والحكم، فقد اتسعت ظاهرة الأديب – الناقد إلى درجة اختلطت في بعض الحالات، وبات المرء غير قادر على أن يُصنف بعض الكتّاب مع الأدباء أم مع النقّاد.
بالعودة للناقد مسوح؛ الذي يؤكد على النقد التذوقي جمالياً، ذلك لأن محاولات النقّاد القدامى – برأيه- من وضع مقاييس لجمال الشعر وقوانين نقدية لتقويمه والحكم عليه، إنها لم تؤكد نجاحها من خلال تطبيق ما وصلوا إليه على الإبداعات الشعرية، ولم تُلغِ اختلاف الباحثين وقراء الشعر في تقويم ما يبحثون فيه أو يقرؤونه، كما أنها، وغيرها من محاولات النقّاد عبر الأجيال، وحتى يومنا هذا، لم توصل إلى قواسم نقدية نظرية مشتركة.
تصنيفات لا نقد
لاشك في إن الحديث عن المذاهب والمدارس الأدبية والجمالية، ظهر عربياً في زمن كان “التراث النقدي” غير كافٍ لمعالجة التجارب الشعرية الجديدة، على ما يرى الناقد والشاعر أمير سماوي والذي يُضيف إنه بسبب نمو التنظير الغربي النقدي للمدارس الأدبية وقيام النُقاد العرب بمتابعة ترجمة هذا التنظير؛ تأثروا به، وتحدثوا عن الشعراء العرب، وصنفوهم وفق المدارس، وحيث كان الشعراء يخضعون لمقولات هذه المدارس ويُراعون في قصائدهم مقولاتها، فجاءت الكثير من القراءات وحتى الكثير من الكتب النقدية تحت بند “التصنيفات” أكثر منها أبحاث في النقد، وهنا نذكر في هذا المجال نقد محمد مندور في مُعظمه، وبرأي سماوي ربما حدث ضياع في انتساب الأدب لأي مدرسة إبداعاً ونقداً، وتحوّل النقد – القليل اليسير- إلى قراءات سطحية وهامشية وساذجة نتيجة ندرة الناقد المُبدع وافتقار مُدعي النقد للملاءة الثقافية، وإمكانية التقييم والتقويم ونقد النقد، والنتيجة ثمة فوضى.
وفيما إذا كان النقد الأكاديمي باعتباره يُطبّق نظريات غربية على النصوص العربية، ومن ثم فهو يُسهم في تغريبها، يُجيب عبود: ليس صحيحاً أن النقد الأكاديمي العربي مُجرد صدى للنقد الأوروبي، وليس صحيحاً أن النقد الأدبي العربي الحديث يستخدم في مُقارباته للنتاجات الأدبية العربية أدوات نقدية غير مُناسبة، لأنها مأخوذة من النقد العربي، أما الصحيح؛ فهو أنّ النقد الأدبي العربي الحديث قد تفاعل مع النقد الغربي واستفاد منه كثيراً في تطوير نفسه، وهذا ضروري جداً، ولو لم يفعل النقد ذلك لكان قد مارس المراوحة في المكان، ولما تقدّم، ولما تطوّر، ولما أصبح نقداً حديثاً، ولظلَّ نقداً بلاغياً ذا أدوات نقدية محدودة، يؤدي إلى نتائج نقدية محدودة أيضاً.. من هنا فهو يجد أنه من الضرورة جداً أن نُكثّف الحوار بين تُراثنا النقدي، والمناهج الحديثة، وأن نقف على ساقين أو قدمين، قدم في الحداثة النقدية، وقدم في التراث النقدي العربي، أي أن نكون حديثين وأصيلين في آن واحد، فالنزعة الحديثة التي لا تتجذر في التراث؛ هي نوع من التغريب، والنزعة التراثية التي لا تستوعب الحداثة؛ تؤدي إلى السلفية العميقة، وأما الموقف السليم فهو: حداثة وتراث.
أصل المحنة
الإبداع الحقيقي؛ يعني أكثر ما يعنيه، إنه خلق يقوم على التجديد والتجريب، وهذا للأسف غير مقروء، وإن قُرىء؛ فسيستبعده الكثير من النقاد، ربما بسبب غموضه أو حاجته إلى تلك الثقافة التي يفتقرون إليها، وكل من حاول أن يكتب في النقد، إما أكاديمي تلقن المفاهيم والقواعد الجاهزة فيتعامل مع النص الحداثي غير المنضبط في النموذج التقليدي، وهنا تحدث الفجوة بين النص النقدي والنص الإبداعي، أو أننا أمام نقد آخر أقرب إلى القارئ العادي غير المُتابع وغير المُبتكر نقدياً، وكذلك غير المليء ثقافياً، وغير المُتحفز لينهض بنفسه ليتوحد مع النص الإبداعي، ويستخرج منه القيم الخاصة التي تجعله إبداعاً فيدل عليها.
وأختم فأقول: إنّ أجمل النقد؛ ذلك الذي يمتلئ بالنص الإبداعي، فيُشكّل نصه النقدي الموازي الذي لا يقلُّ إبداعاً عن الإبداع القائم عليه.