“سبر الأغوار” للفينيق حسين صقور… نصوصٌ إبداعيّةٌ نقديّةٌ تبحث في أعمال الروّاد
تشرين – لبنى شاكر:
اعتاد الفينيق حسين صقور أن يتعاطى مع الجماليات بأريحيّة، تاركاً لنفسه حرية الذهاب، حيث تشعر بأنّ لديها ما تقوله سواء كان أدباً أم تشكيلاً، ومن ثم كان في رصيده توليفةٌ غنيّةٌ من التجارب، جزءٌ منها في كتابة القصة القصيرة والشعر في مجموعتيه “حين تشتعل الحروف” و”وطن الفينيق”، مُضافاً إليها عدة معارض فردية منها “دموع آدم”، “احتواء”، “بقايا إنسان”، “إيقاعات نازفة”، وفي سياقها كتابته النقد التشكيلي بأسلوبٍ أدبي، تكللت مُؤخراً بصدور كتابه “سبر الأغوار” عن الهيئة العامة السورية للكتاب، متضمناً نصوصاً وقراءاتٍ نقدية لفنانين سوريين من جيل الرواد والأجيال القريبة منهم.
من مهام النقد الكشف عن الخفايا التي تُعطي العمل قيمة استثنائية
للمزيد عن المُنتج الجديد، التقت “تشرين” الفنان والباحث التشكيلي الفينيق حسين صقور. .
مُختاراتٌ نقديّةٌ
*ما هي المراحل التي مرّ فيها “سبر الأغوار” حتى أصبح بين يدي القرّاء، ولماذا وقع اختيارك على جيل الرواد دوناً عن غيرهم من المُعاصرين مثلاً؟
الكتاب تحصيلٌ لنتاجي السابق في النقد التشكيلي، ومختاراتٌ مما يتكدس في أدراجي من نصوصٍ عن بعض الفنانين الرواد، على أن يليه كتابٌ ثانٍ أستكمل فيه من لم يرد ذكره من الفنانين في الكتاب الأول، إضافةً إلى عددٍ من الرواد أيضاً لإظهار الترابط الفني كسلسلة. أمّا اختياري للرواد والأجيال القريبة منهم، فيعود إلى ما يعتري الكاتب عادةً من مخاوف في إصداره الأول، بمعنى أن جهده ينصب على كيفية إيجاد التسويغ لِكتابه، للعبور والظهور، ويُفترض أن مهمته تصير أسهل فيما بعد. ومن تلك المسوغات مثلاً أن يجمع الكتاب الفنانين تبعاً للجيل أو المواضيع المعالَجة أو قد تكون التشابهات ومقدار التأثّر والتأثير وتبيان تطور الاتجاهات الفنية مسوغاً لصدور كتاب يضم أجيالاً متباعدة فرضاً.
ورغم أن لكتابي مسوغات حضوره عبر نقاط كثيرة منها قدرته على الاختلاف في أسلوب التعاطي مع اللوحة والفنان، وخصوصية السرد اللغوي فيه، إلا أن المخاوف مما قد يُحدثه خلط الأجيال من أثرٍ وانعكاساتٍ كانت أكبر، لذلك آثرت نشر مواضيعي في كتابين مُترابطين أو أكثر، وقد يُعاد نشرها ضمن موسوعةٍ لها مُسوغاتها مستقبلاً. ولا بد من القول إن ظلماً يلحق دائماً بالأجيال الجديدة من الفنانين، فمع ما يقدمونه من إبداعات، إلا أن مهمتهم في إثبات ذاتهم على الساحة التشكيلية تُصبح أكثر صعوبة، في ظل ازدحام الساحة بالفنانين وفي ظل الظروف الصعبة الراهنة التي يمر فيها الوطن.
غياب النقد لا يتعلّق بقلة الكوادر “النقّاد”، إنما في كيفية الكشف عنها واستثمارها
مَهام النقد
*هل حاولت تقديم قراءةٍ جديدةٍ أو مُغايرةٍ لتلك التجارب بعد مرور زمنٍ طويلٍ عليها؟
**الحكُم هنا للقارئ المُتابع والمُهتم ولفنانين محايدين ونقّادٍ يحملون هماً وطنياً أكبر من مشاعر الأنانية الفردية والتكتلات. أي جوابٍ صريحٍ أقدمه يضعني في قائمة المتغطرسين، ومعاذ الله أن أكون كذلك، لكني أستطيع الإجابة نقلاً عن لسان بعض القامات الفنية والمثقفين والقراء المُتابعين، من بينهم مازال في ذاكرتي تعليقٌ سابقٌ وقديم للفنانة أسماء فيومي على مقالة كتبتها تحت عنوان “سطور في التشكيل”، قالت يومها “كل مقالةٍ من مقالاتك تُعادل عشرات المعارض”، وأقول: القطيعة والتفاعل والذم والمجاملات هي التي تحكم مواقع التواصل حيث تُطرح الآراء الفنية ويتم تداولها، لكن فنانةً كبيرةً بمستوى أسماء فيومي لا يمكن أن تغريها مواقع التواصل ولا يمكن أن تقع في فخها.
وإذا عدت إلى الفنان والباحث عفيف بهنسي، فالنقد عملية وصفٍ وتحليلٍ وتحكيمٍ وتأويلٍ للأعمال الفنية، وهو الكشف عن بعض المعاني والرموز والدلالات التعبيرية من خلال تتبع البناء التشكيلي للعمل، وأرى أن من مهام النقد أيضاً تقييم الأعمال الفنية استناداً لِما تحمله من قيمٍ تعبيريةٍ وجماليةٍ، وفرادةٍ وقدرةٍ على الإدهاش، وهو الكشف كذلك عن بعض الخفايا التي تُعطي للعمل تلك القيمة الاستثنائية، لِنضعه ضمن الدائرة الأكثر اتساعاً، في المكانة التي يستحقها على درجات السلم الإبداعي.
أما أسلوبية الناقد في تعاطيه مع الموجودات حوله تعدّ إضافةً جديدةً، وهي لا تتحقق سوى من خلال نصٍّ لا يقل قيمة عنها، أعتقد أن كلماتي استطاعت سبر أغوار العمل التشكيلي وتقمّص التجارب وجملة المشاعر والأحاسيس المُرافقة، عبر مختبرات ذاتي المُشبعة بالحب، ومن ثم انعكست تلقائياً وبسلاسة كما شلال يتدفق من دون أي جهد، في نصٍّ نقديٍّ إبداعيٍّ قادر على الوصول للمتلقي وتحقيق المتعة التي تشدّ القارئ للمتابعة، والتواصل مع الجمل والكلمات كما معزوفة موسيقية أو سيمفونية، هذا هو أسلوبي وتلك هي أسلوبيتي صقلتها الثقافة والمتابعة وتجربتي الحياتية الخاصة.
الجسر الو اصل
*إذاً تعدد الإبداع المعروف عن الفينيق صقور حاضرٌ في كتابه لِجهة الكتابة الأدبيّة، لكن ماذا عن كونك تشكيلياً أصلاً؟
بالتأكيد الناقد التشكيلي المُؤهل، فنانٌ ومُجرّبٌ من الطراز الأول، يمتلك قلباً طيباً عاشقاً يمنحه القدرة على التعامل مع محيطه، بعين ثاقبة قادرة على التحليل والتأويل والكشف عما هو أبعد من الظاهر المرئي، وأرى أنه يجب أن يمتلك ناصية اللغة، إضافةً لثقافته العامة في كل المجالات المُتعلقة، فهو صلة الوصل بين الفنان واللوحة والمتلقي، وهو الجسر الواصل، وحين يكون هذا الجسر فريداً مزهراً ستكون فرصة العبور من خلاله أكبر وأكثر متعة.
الناقد التشكيلي المُؤهل… فنانٌ مُجرّبٌ قادرٌ على التحليل والتأويل
وأقول: كل ما أقوم به من أعمال في حياتي مرتبطٌ بقدر ما تحققه لي من متعة الطريق، فأنا أنظر لعالمي المحيط بعين الدهشة والإعجاب، وهما المحرك الأساسي للإبداع وللبحث عن الأسرار خلفه، وما كنت أرنو إليه في رحلة عبوري هذه أن أُهيئ لروحي الهائمة جناحين عظيمين يُغطيان السماء ثم يمضيان بها إلى جنان الخلد، وأن أُهيئ لجسدي المنهك لَحداً مريحاً في ثرى وطني أرض المحبة والعطاء.
اكتشاف النقّاد
*يُقال دوماً إن النقد التشكيلي غائبٌ لمصلحة القراءات الوصفية الصحفية، ما رأيك؟
**نعم، في الغالب الكتابات في هذا المجال لا تتعدى التحقيق أو المقال الصحفي الذي يُؤرخ لنشاطات الفنان وبعض المفاصل المهمة في حياته، وهذا جيدٌ فقط حين نربطه بالأثر على تجربة الفنان ومدى تطورها في العمق، أما حين لا تتعدى المقالة الوصف الظاهري والكلمات المُعادة القابلة للإسقاط على جميع التجارب، حينها لا يمكن اعتبار ما تقدّم نقداً.
القراءات الوصفية المُتداولة بين العامة وأثناء افتتاح المعارض، هي شرحٌ غبيٌّ للمفردات الظاهرة في العمل، وعذراً على هذا التعبير لكنه في محله، كنت ومازلت أقول: ليست كل شجرةٍ شجرة، وليس كل عصفورٍ عصفوراً، تلك الأشياء تتحول إلى أشكال وخطوط وألوان، ومضمونها يتجلى في عمق ما يحمله الخط من تعابير مشحونة بعلاقة الفنان مع الموضوع المعالَج، وما يريد أن يقوله من خلال ذلك الموضوع.
حقيقةً يؤلمني ذلك الكلام السلبي والمُعتاد حول غياب النقد على الساحة التشكيلية وذلك من باب الغيرة الوطنية، وأنا لا أنتمي لأولئك الذين يرمون بالأحجار مُجردين أنفسهم من حس المسؤولية، النقد التشكيلي موهبةٌ تُولد مع البعض وهي ليست عملاً وظيفياً، وكما نعرف غالبية من يعملون في هذا المجال صحفيون، أي هناك فائدة مادية ولو طفيفة من خلال المواد التي يقدمونها، في حين يبذل الناقد الحقيقي من وقته وماله ليُعطي ويُقدّم ما هو ثمين من دون مقابل، حين يُرمى مثل هذا الكلام سوف يتألم الناقد الحقيقي، سيفتح أدراجه وينظر بحسرة لنتاجه ولجهد السنوات المُخبأ.
أقول أيضاً: غياب النقد لا يتعلّق بقلة الكوادر “النقّاد”، إنما في كيفية الكشف عن تلك الكوادر واستثمارها، وكيفية إدارتها وتنظيمها ودعمها مادياً ومعنوياً لتُواصل ما نذرت نفسها له، قد تقع تلك المسؤولية على عاتق جمعية النقّاد المُجمّدة نشاطاتها حالياً، وأياً كانت الأسباب أعتقد أن تفعيلها ضرورةٌ ملحةٌ، تنبثق عن همٍّ ثقافيٍّ وحسٍّ وطنيٍّ عالٍ، حقيقة كنت أسعى لإعادة تفعيلها وطرح بعض الأفكار من خلالها، لكنّ يداً واحدة لا تستطيع التصفيق.